هم صغارنا حين يولدون من دفق الأم أو من ولادة متعسرة.. نفرح بهم ونكاد نطير، نقلدهم من أسماء الجدود أو الأبطال ما يجعلهم قرة العين، ونبض الصدر، متعشمين فيهم النجابة والخير، وربما الخلافة، نعلمهم ونجالد لكي يكونوا مميزين، يبزون أترابهم، ويفوقون أقرانهم، نوفر لهم المربين والمؤدبين والحاضنات والمرشدات ليصبحوا علامة فارقة، حتى أحياناً نتمنى أن يصبحوا خيراً منا، متخلين عن تلك الأنانية التي تطبع صفات كثير من البشر.. سيف الإسلام القذافي كان أحد هؤلاء الذين ولدوا كبكر ثان للعقيد والسلطة المطلقة، وكبكر أول للسيدة الثانية التي سرعان ما ستحتل مكان السيدة الأولى، ويومها فرحت “الجماهيرية” كلها، فالأشياء حينذاك كانت في بداياتها، حينما كبر وتعلم أصبح شخصية مختلفة عن الأب، فهو درس الفنون، وتعلم أن يرسم، وعزف على آلة موسيقية، وأتقن أكثر من لغة، وسافر إلى الخارج، وزاد من معارفه، واكتسب الكثير من الاطلاع والتجارب، وخالط الكثير من الناس، مختلفي الثقافات والأعمار، ومتّن علاقاته بالأسر المالكة والحاكمة في مختلف بلدان العالم.. كل تلك الأمور صاغت شخصيته بطريقة مختلفة ليكون نسخة معدلة ومحسنة عن أبيه، مقبولاً داخلياً وخارجياً، وهكذا طرح نفسه فيما بعد، وظهر كشخص إصلاح وتنمية وتطور وتفكير عصري، بعد حصوله على الشهادة العليا في الاقتصاد والسياسة من بريطانيا، وبعد أن أقام معارض تشكيلية شخصية، طرح نفسه كشخصية متدينة، متبعاً ظل اسمه وثقله، وتتماشى مع سلو المجتمع الليبي، وكشخصية إنسانية تساهم في حل قضايا الإنسان، وتساهم في رفع معاناته ومتاعبه في العالم، كان أملاً لصورة جديدة لليبيا أكثر إشراقاً، وأكثر علاقة مع محيطها العربي والأفريقي والدولي، بعيداً عن مشاغبات الأب التي لا تنتهي.. استبشر به الجميع في الداخل الليبي والخارج العربي والعالمي، انزوى حينما اشتد الصراع بين الأب والأبناء الخمسة على منافع السلطة، وجبروت السلطان، والبطش من أجلهما، ظل كمشروع وطني لا يريد أن يتلوث، حتى كاد أن يكون قابعاً في غمده، وينسى، لكن الأحداث الأخيرة والمتسارعة في الجماهيرية الحاضرة بهيبة عقيدها، الغائبة عن العالم ووتيرة تقدمه، دفعته ليكون بجانب الأب كواجب دفاعاً عن السلطة المهددة، فقدمه الأب كقربان ليظهر بالوجه السيئ، فتمادى وعاند وتخلى عن شخصيته ليكون صورة مستنسخة من صورة الأب، حديثاً وبطشاً وسلوكاً حتى خابت آمال الناس المراهنين عليه في الداخل والخارج، حينها صعب التراجع، وصعب تقديم ما قد يشفع له كخط رجعة آمن، فلم يكن أمامه إلا الخنادق المتبقية للمقاومة، وحين سقط العقيد وتهاوت جماهيريته التي بلا جماهير، لم تكن إلا الصحراء ملاذاً له، قبض عليه في ليل الهروب، مبتور الأصابع التي كان يهدد بها الثوار، مرتدياً زي الصحراء، يملؤه الخوف، يتمنى لو يعود كيوم ولدته أمه في زي ملائكة الخير!


amood8@yahoo.com