كانت رحلات جيلي الكثيرة إلى الهند تأتي إما بتوصية من “الشواب” الذين خبروها قبلنا، وذاقوا فيها طعماً آخر، وشاهدوا “طماشتها”، وإما لأنها الأشهر والأرخص والأقرب، لكن بالتأكيد كان جزء منها من أجل أبطال السينما الهندية، ومشاهدة الأفلام أثناء التصوير “شوتنج”، والذي يجعلنا نجلس ساعات طويلة من النهار نستمتع بعمل في بدايته غير ممتع إطلاقاً، فالممثل يظل يعيد أحياناً الجملة عشر مرات، وتصوير بعض المشاهد يتم إعادتها أكثر من مرة، رغم أنها مشاهد متقطعة، وقصيرة، ولا يمكن أن تفهم منها شيئاً أو يمكن أن توحي لك بقصة الفيلم، العمل السينمائي أثناء التصوير أشبه بأكل عجينة لم تمسها النار بعد. كانت لنا بعض الميزة حين نحل ضيوفاً على بطل الفيلم نشاركه غرفته، ونتبادل معه أطراف الحديث في استراحته، ونتغدى معه، هذه العلاقة التي بدأت بإعجاب في الصغر ببعض هؤلاء الممثلين تطورت فيما بعد من خلال تلك الرحلات والزيارات لـ “تابلوهات” السينما، وتردد نفس الممثلين على الإمارات حين غدت دولة الإمارات، وبدأت الهند تحسدنا على التطور السريع إلى ود دام واحترام كبّرته الأيام وحكمتها. في الصغر كنت معجباً بالممثل “دهرميندرا” و “اميتاب باتشان” في المقام الثاني، فقد درجنا أن نتسمى بأسماء هؤلاء الممثلين، ونتشاجر حولهم، ونقلدهم، ونتسابق على رؤية أفلامهم، وتتبع أخبارهم من خلال مجلات فنية هندية كانت تباع بقرب دور السينما المكشوفة كالماريا والفردوس، والوحيدة المغطاة هي سينما الخضراء بالقرب من فندق زاخر القديم، فقد كانت تلك المرحلة العمرية لا تسمح بمغامرات أكثر من حب السينما والتعلق بما نشاهده من أفلام كثيرة ومتنوعة، ورغم إحساس البعض أنها كانت مضيعة للوقت، لكني أجزم أنها وسعت الخيال، ومنحتنا فرصة التجوال، وعلمتنا مفردات الحياة. لكن حين اشترك هذان الممثلان في أجمل فيلم في تاريخ السينما الهندية “شعلة” زاد تعلقي بهما، ولا أدري كم مرة بعد العشرين شاهدت هذا الفيلم التحفة على سنوات متفرقة، واليوم حين أراه أتذكر كم عانيت لكي أحظى بتذكرة دفعت فيها أضعافاً مضاعفة لمشاهدة عرضه الأول في تلك القاعة الإسمنتية المكشوفة، وأتذكر الأماكن المختلفة التي شاهدت فيها الفيلم، في حين ظلت أغنية الفيلم تشجيني كلما سمعتها، وتذكرني بدموع صديق غائب. اليوم هذا الممثلان العملاقان كونا أسراً فنية متعاقبة، وأصبحا جدين، ومازالا متألقين رغم تقدم العمر، ومحافظين على وسامتهما، وما برحا إنسانيين، كما ينبغي للشخص النبيل المشهور، بعيدين عن أي تعصب في بلد قابل للتعصب لأي شيء، يكفي أن تعرفوا، أنهما يقيمان موائد لإفطار الصائمين طوال شهر رمضان حول منزليهما، غير مقتنعين أن التعصب بأشكاله يمكن أن يفصل إنساناً عن محبة ومساعدة الآخر المغاير!