يكسر الفقير حصالة العمر ويفتش بين قشورها عن الزمن الذي ولى في الانتظار. الزمن الذي جف على عتبة الأبواب المغلقة وكان عصيا على كل المفاتيح. والفقير، بعد سبعين سنة من الوقوف تحت شجرة الأرزاق المنحنية أغصانها، سيدرك ان الثمرة الناضجة الممتلئة التي سقطت في الوحل بعيدا عنه كانت تدبيرا مقصودا. وسيدرك ان القدر ليس بابا يفتح او يغلق، وليس طريقا نسلكه ونعرف نهايته. بل هو (الاكتشاف) في نهاية العمر والتعرف على قيمة ان تظل فقيرا معدما تحلم بالمال والنعيم وتراقب الفرص وهي تتبخر من امامك وانت تطاردها ولا تمسك منها سوى الدخان، بينما تصل هذه الفرص الى الآخرين وهم نائمون في بيوتهم. وسيظل الفقير يسأل: لماذا يذهب المال الى الأغنياء ولماذا تتفتح زهور الفرص المادية في حدائق الأثرياء ليزدادوا ثراء. هل قدري ان أعيش فقيرا؟ ام انني لا ابذل ما يكفي من جهد، ام ان شخصا ما في داخلي يريد لي ان أظل بعيدا عن صراعات المادة وغرورها. هل صحيح ان الأثرياء يتعذبون في مالهم الذي يصبح هما ثقيلا مثل كتلة حديدية في العقل؟ اليس في الفقر راحة للبال وفي كنز القناعة مال الأرض كلها، وفي الجوع مرارة حلوة؟ وقد يصل الحال بالفقير الى التغني بفقره. اكتشاف المعاني المخفية في الحياة، وربط الأحداث التي جرت لك ببعضها والعثور على تفسير لها هو بحد ذاته لذة يفرح بها العقل، ذلك لان وهم التعرف على البعد الثاني وربما الثالث في مشهد الحياة قد يرفع الرائي (غنيا او فقيرا) الى مرتبة تزول فيها فروق المادة ويصبح السباق هنا في قدرة الإنسان على تجاوز الشكل المادي للحياة الى الشكل المعنوي الذي ننتصر فيه على الخوف ونزيحه من القلب لنشعر بالحرية او التحرر من كل الأطماع النابعة من الشهوات الداخلية. والفقر عند كثيرين نعمة، خصوصا الزهاد وطلاب الحقيقة والعارفين الكبار الذين يتخلون عن نعيم الدنيا كلها من اجل التقرب الى النور الذي لا نصل اليه الا بالمشقة وتحمل الصعاب والمشي حفاة في طريق الشوك والآلام. وهؤلاء قلة في الزمن والتاريخ، اما الملايين من الفقراء والجوعى والمحرومين فهم عند البعض شكل لعدالة الكون، والذي يقرأ ميزان اقتسام الثروات ويراقب بعدها الثاني او الثالث قد يجد تفسيرا في اللامنطق عندما يتجمع كل المال لدى قلة قليلة من البشر يلهون ويلعبون به، بينما الأكثرية في حرمان دائم. فقد يكون ذلك احد أشكال العدالة وقد يكون شكلا لجشع الانسان الذي علينا ان نحاربه داخلنا. كما ان الاديان والنظريات الاجتماعية القائمة على المشاركة نادت كلها باقتسام الثروات وتوزيعها بالعدل والتساوي بين البشر الا ان الجشع ظل ينتصر في الصراع على المادة وظل يربي الخوف سلاحا سريا في قلوب الفقراء. وسيدرك الفقير في نهاية العمر ان سنوات الحرمان علمته التغلب على اشد لحظات الحياة قسوة، وان هذه الخبرة لا يعادلها شيء. عادل خزام khozam@dmi.ae