هل تعرفون كم حدثاً سياسياً وعسكرياً خاطفاً للأبصار والأعصاب يتابعه عامة الناس وبسطاؤهم عبر شاشات التلفزيون كل يوم؟ هل تعرفون ما معنى أن تلهث وراء خبر، أن يتحكم في أعصابك حدث ما يتغلغل لحظة بلحظة في وجدانك وعقلك ويربطك كحيوان أليف مدجن ينتفض رعباً في مكانه، لا يفعل شيئاً سوى تقليب المحطات بحثاً عن مستجدات ذلك الخبر؟ إنها حالة لا إنسانية بكل المقاييس وعديمة الرحمة فعلاً!
لقد عشنا تفاصيل الحرب على العراق عبر التلفزيون لحظة بلحظة، فاحتاج كثيرون منا لطبيب نفسي بعد انتهائها، وعشنا يوميات الحرب الإسرائيلية على لبنان وكأننا جزء من مشهديتها القاتمة، فماذا كسبنا سوى الأسى ووجع القلب وزيارات كثيرة لبعض الأطباء؟ وها نحن نعود كحليمة لعادتنا القديمة لنركض كفئران المختبرات وراء تفاصيل التفاصيل في الثورات لعربية ابتداء من تونس وانتهاء اليوم بسوريا، نصبح مؤمنين بها ونمسي على غير ما يرام، فماذا بقي من أعصابنا، وماذا بقي من إيماننا بالأمل والتفاؤل وأجمل الأيام التي لا بد أن تأتي؟!
في الحقيقة، إن ظاهرة البث المباشر للأحداث عبر شاشات التلفزة منذ عدة سنوات وبهذه الكثافة غير المعقولة وغير الرحيمة أمر يصعب الاستمرار معه بالطريقة التي نفعل نحن، إننا عاطفيون جداً، متفاعلون أكثر مما يجب، وقد تحولنا دون أن ندري إلى كائنات تلفزيونية نرى العالم من خلال الشاشة، فنصدق كل ما نرى ونتفاعل مع هذا الذي نرى دون أن نسأل أو نأخذ وقتاً بسيطاً نبتعد فيه مسافة معينة لنتأمل المشهد.
في سنوات الحرب الأهلية على لبنان مثلاً، كنا نتصور أن الحياة مشلولة تماماً في هذا البلد والناس تصبح وتمسي تحت القصف، فلا شيء سوى القتل والقتلى والجثث، لا أسواق لا متسوقون، لا سيدات يخرجن للتبضع ولا مطربون يفكرون في الغناء، فاكتفنا فيما بعد أن الحياة مستمرة وأن هناك ما هو أكثر من حفلات الغناء في مناطق مختلفة، وحين نتابع التفجيرات والقتل اليومي في العراق اليوم نعتقد أن الحياة قد توقفت تماماً، وانه لا شيء يدل على معنى الحياة هناك، والحقيقة أان الناس تعيش وتتسوق وتذهب إلى أعمالها وتقيم حفلات الزواج وتغني وترقص وتموت أيضا!
نحتاج إلى أن نجلس بعيداً عن التلفزيون، ليس كما كان أهلنا يطلبون منا حين كنا أطفالاً حفاظاً على أعيننا، ولكن كما تعلمنا حين كبرنا حفاظاً على أعصابنا، فالبث والصورة التلفزيونية لا يعرفان الرحمة ولا يقولان كل الحقيقة، إن التغطية التلفزيونية والإعلامية بشكل عام هي في النهاية عملية انتقائية، اعتباطية تبدأ فجأة وسرعان ما تنهي فجأة، بينما نظل نحن معلقين بالشاشات نبحث عن نهايات أخرى وأسرار أكثر إغراء.
العالم لا يحتاج مزيداً من البث المباشر، انه يحتاج مزيدا من الرحمة، وحدها الرحمة كفيلة بأن تقلل حجم هذه البشاعات التي نركض خلف متابعتها كل لحظة، لا شيء يتغير خلال ايام طويلة من المشاهدة للدم والقتل والجثث التي تطفح بها الشاشات، لا شيء يتبدل سوى تلك الأعداد غير المتناهية من الصور التي تترسب في قاع عقولنا ومنطقة الوعي واللاوعي فينا، ولذلك فحين لا يكون التلفزيون رحيما بمشاهديه فإن من أضعف الإيمان أن يكونوا رحماء بأنفسهم.. فالعنف كفيلم أميركي طويل لن ينتهي قريبا، فاعتزلوا الأخبار لبعض الزمن.


ayya-222@hotmail.com