العرب من أكثر الأمم عناية بآداب المائدة، وبحكم موقعهم الجغرافيّ الأوسط من العالم فإنهم أفادوا من معظم الأطباق التي ابتكرتها الأمم عبر التاريخ الطويل. وكان النبيّ صلعم يعلّم أصحابه آداب الأكل، كما كان يعلّمهم آداب التعامل الاجتماعيّ. ونجد كتب الحديث زاخرة بالأحاديث التي تتناول آداب المؤاكلة، فمن ذلك: “أمّا أنا فلا آكُل متَّكئاً”. (أي جالساً على هيئة المتمكّن المتربّع ونحوها من الهيئات المستدعية لكثرة الأكل، بل كان جلوسُه للأكل مُقْعِياً مُسْتَوْفِزاً، غير متربّعٍ ولا متمكّنٍ. ـ قاموس، توكّا). وممّا له صلة بالمائدة والمؤاكلة والاقتصاد المنزليّ ما ورد في الأثر: إنّ اللّه تبارك وتعالى لَيُبْغِض أهل البيت اللَّحِمِين، أي الذين لا تكون أطباقُهم إلاّ لحماً وشحماً، وقد ثبت طبّيّاً أن الإكثار من أكل اللحم يُفضي إلى أمراض قد تكون خطيرة، وهي الأمراض التي يكابدها، اليوم، الأغنياءُ والمجتمعات المترَفة. ولم تقتصر آداب المائدة على المؤاكلة، بل على الْمُشارَبة أيضاً، حيث ورد في الأثر الشريف عن آداب الشرب: “اشربوا الماء مَصّاً، ولا تعُبّوه عَبّاً، فإنّ الكُبَاد من العَبّ”. والعبُّ: شرْبُ الماء من غير مصّ، ولا تنفّس: فكأنّ العبّ شرْب الماء دَغْرَقَةً بلا غَنَثٍ. والدّغرقة هي صَبُّ الماء جملة واحدة. والغَنَث: أن يقطع الجرْع. وأمّا التعبُّبُ فهو مناقض للْعَبِّ، إذْ هو التَّمصُّصُ الذي يشبه احتساء الطائر. وتطلق العرب على ما بين النّفَسينِ من الشّراب، والإناءُ لا يزال على الفم: الغَتُّ في الماءِ، فهو استراحة وتمكين للمرِيء من امتصاص السائل كلّه قبل الاستئناف. وكانت الْحِمْية معروفةً في المائدة العربيّة، ويشهد على ذلك جواب الطبيب العربيّ المشهور الحارث بن كَلَدة الذي لَمّا سأله الخليفة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: ما الطّبّ؟ أجابه: الأَزْمُ، ويعني الأزمُ في لغة الطّب القديم: الحِمْية التي هي أيضاً استعمال من اللغة قديم. وكان الطبيب بختيشوع لا يزال يَعُدّ إدخالَ الطعامِ على الطعام رابعَ أربعةٍ ممّا يهدِم البدن. ولِمَا للمائدة من أهمّيّة في الثقافة العربيّة فقد ألّف جملة من الكتّاب العرب كتباً في موضوع المائدة وآداب المؤاكلة، فمن ذلك رسالة قصيرة في آداب السفرة للسمناني، ورسالة أخرى لبدر الدين حسن بن عليّ الغزي الذي كان معاصراً لصفيّ الدين الحليّ، بعنوان: “آداب المؤاكلة”، وهي رسالة طريفة جاء فيها الغزيّ على أهمّ مصطلحات المائدة العربيّة وآداب مؤاكلة الضيف، فذكر ثمانيةً وسبعين مصطلحاً تجري كلّها في آداب المؤاكلة، فممّا جاء فيها من ذلك: “الْحَكّاك”، وهو الذي يستعجل غسْلَ يديه قبل الشروع في الطعام بزمن قد يُضطرّ فيه إلى حكّ شعر رأسه، أو بدنه، أو شعر لحيته، ثمّ يتناول مع المؤاكلين طبقَهم! فقد كان ذلك مَعِيباً لديهم مستقبَحاً، فقد أورد الغزيّ أنّ “رجلاً غسَلَ مع المأمون يده، وأبطأ الطعامُ، فسبقتْه يده إلى رأسه، فقال له المأمون: أعِدْ غسلَ يدك! فغسلها، ثمّ لم يلبث أن سبقتْ يده إلى لحيته، فقال له: أعد غسلَها! قال: ولا يلي غسْلَ اليدِ إلاّ الخبزُ”.