يسرف كتّاب وسياسيون في إطلاق تسمية ربيع على الحراك العربي الجاري في الشارع وحول السلطة. يتدثر الربيع، بين الفصول، بالأخضر اليانع، لكن لونه في ساحات الحراك يتلون بالأحمر المائل إلى السواد. التسمية بحد ذاتها أستعيرت من قاموس أوروبي. في العام 1968 تفتّح ربيع براغ. عدة أشهر من الإنفتاح المدروس قادها زعيم الحزب الشيوعي التشيكي المعتدل ألكسندر دوبتشك: حرية مقدرة في وسائل الإعلام، نشاطات متوهجة للكتّاب والمثقفين، حركة محدودة على صعيد التنظيم النقابي والحزبي بعيدا عن الحزب القائد. لم تعجب هذه التجربة عواجيز الكرميلين. رأو في مسألة “الاشتراكية ذات الوجه الإنساني” التي اعتمدها الرفاق التشيك اختراقا لمبدأ “السيادة المحدودة” المقرر من موسكو. جرّدوا حملة بالدبابات في أغسطس على براغ ومدن تشيكوسلوفاكيا وسحلوا زهور الربيع. اختنق الطالب يان بلاش بالمشهد فأضرم النار في نفسه لكي يشعل الوعي في أفراد أمته. في وقت متزامن كانت باريس تعيش ربيعها الخاص. في أيار 1968 نزل الطلاب إلى الشوارع نيابة عن ملايين العمال والأسر الفقيرة. استنكروا النزعة “الجنرالية” في حكم ديغول، بطل التحرير. اعتصرتهم مرارات هزيمة جيشهم في “ديان بيان فو” الفيتنامية عام 1954، وفي حرب التحرير الجزائرية. رفضوا النزعة الاستعمارية التي اعتبرها مفكّرون كبارا إثما غربيا، خصوصا في البيان الذي أصدره موريس بلانشو ووقع عليه 121 مثقفا بينهم جان بول سارتر. رفعوا شعارات جذرية مثل “منع الممنوع” و”لا تعطني حريتي سأتولى الأمر بنفسي”. كتبوا على جدران باريس مقولة تروتسكي الدموية: “إن الإنسان لن يتحرر قبل أن نشنق آخر رأسمالي بأمعاء آخر بيروقراطي”! بين الربيعين، كانت هناك تعارضات كبيرة. الأول يريد الخروج من الربقة السوفييتية والثاني يتمرد على الإمبريالية الغربية. وقد رصد هذه التعارضات الروائي التشيكي ميلان كونديرا، الذي كان يقيم آنذاك منفيا في باريس. قال صاحب “خفة الكائن التي لا تحتمل” ـ وهي رواية كابوسية عن القمع في بلاده ـ في شهادة له إن “ربيع براغ” كان تتويجا لمسار طويل بدأ مع صدمة الرعب الستاليني. و”ربيع باريس” كان هبّة شبابية موسومة بغنائية ثورية. الربيع الأول كان يريد أن يعيد إلى أمة صغيرة أصالتها واستقلالها، والربيع الثاني أعلن بوضوح أمميته. الربيعان اخترقهما الخريف. بعد ثلاثة عقود جاء نيكولا ساركوزي لكي يعلن في بداية عهده إن من أهدافه القضاء على ميراث مايو، باعتبار أنه شوّه المعايير السلوكية لدي المواطنين ودفعهم إلى الاستخفاف بقيمة العمل. أما كونديرا التشيكي، فإنه يلمّح بطريقة ذكية إلى تهالكات المنتفضين على طريق السلطة. يسند رأيه إلى رواية جوزيف سكورفورشك (منفي تشيكي آخر) بعنوان “معجزة في بوهيميا” والتي نشرت عام 1970، وفيها يضع في كفّة واحدة بهيمية السلطة والتلويحات المغرورة لقوى المعرضة. افترست السلطة الكتاب، ومثلها فعل “الثوار”. يخرج ميلان كونديرا باستنتاج هو: إن النظام السياسي الأمثل، لكل طرف، هو “ديكتاتورية في حالة تحلل”. في مثل هذا النظام يمتلك المتخاصمون حرياتهم الفجّة. السلطة تصل بالقمع إلى مدياته الوحشية، والمعارضون يمنهجون عنتهم إلى الحدود القصوى. هل تنطبق تلك التعارضات والمطابقات بين ربيعي براغ وباريس على الربيع العربي؟ الإجابة عن هذا السؤال تبدو تنويعة خريفية سيكون مصيرها ما أصاب كتاب “معجزة في بوهيميا”. فالسلطة تشحذ سكاكينها، والمعارضون ينشّون ياقاتهم على طريق الديمقراطية، التي وصفها ونستون تشرشل مرة، بأنها أفضل نظام سياسي سيئ. adelk58@hotmail.com