هناك بعض الموشحات المثيرة، ذات الطابع الفني والموضوعي اللافت، مما يجعلها تستحق الذكر والتأمل، خاصة إذا كانت ترتكز على أبرز تقنية شعرية انتبه لها النقد المعاصر، وهي التناصّ أو تداخل النصوص، فالوشاح الأندلسي والمغاربي كان متجذرا في تراثه العربي ومستوعبا لعناصر ثقافته المائزة، فهو يقرأ الشعر الجاهلي مثلا ويعيش حياته الجديدة مازجا بمهارة فائقة بين العالمين. فهذا “ابن غرلة” الذي اشتهر بعشقه لرميلة أخت الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي يقول: “من يصيد صيدا/ فليكن كما صيدي صيدي الغزالة/ من مراتع الأُسد” ونلاحظ جرأة الشاعر الشديدة في تمثيل هذا العشق الخطر والتغني به في مطلع الموشحة، فهو يزهو بأنه قد اصطاد غزالة من مراتع الأسود؛ أميرة من بيت الخلافة التي عرفت بالتزمت والمحافظة، ومهما كان إلمام قومها بالعربية محدودا كما تشير إلى الروايات التاريخية فإن هذه الصورة الشفيفة الناطقة لا تخفى على أحد. ثم يتابع الشاعر في جسارة وتحدٍّ: “كيف لا أصولُ/ واقتنصت وحشية ظبية تجول/ في ردا وسوسية صاغها الجليل/ فهي شبه حورية تنثني رويدا/ إذ تميس في البرد تعجن الغلالة/ والردا مع النهد” يستخدم الشاعر كلمة القنص وهي عنيفة في دلالتها على الاستحواذ القسري، ثم يصفها بأنها وحشية لم تستأنس بعد، فهي ظبية تجول في أردية العز والنعمة، وإذا كان بوسعنا اليوم أن نعرف الرداء فإن “السوسية” لابد أن تشير إلى ملبس نسائي كالعباءة الحريرية الفاخرة، المنسوبة مثلا إلى مدينة “سوسية” هذه الظبية شبه الحورية تتدلل وتتثنى على مهل، وتميس في أبرادها الناعمة كأنها تعجن الغلالة الرقيقة والملابس الشفيفة بنهدها الذي تستدعيه القافية ولا يتورع الشاعر عن ذكره، ثم يمضي في التغزل بها، معلنا استعداده للموت حبا من ناحية أو ثمنا للجسارة من ناحية أخرى: “خدها الأسيل/ بدت منه أنوار طرفها الكحيل/ سُلّ منه بتار ها أنا القتيل/ فهل يؤخذ الثار؟ قد أسرت عبدا/ ولم أك بالعبد مت لا محالة/ فاطلبوا دمي بعدي” أوصاف الحسان معلومة مسبقا، من الخد الناعم المشعّ بالنور، والطرف الساهم المسحور، حيث يجعله الكحل كالسيف البتار، ثم يعلن الشاعر أنه قتيل الأمرين معا، فتنة الحسناء وطرفها الصاعق، وغيرة القوم وبطشهم الشديد، ثم ينادي على من يأخذ بثأره وقد كان حرا فاستعبده العشق، وهو ميت في كل الأحوال. لكن المقطع الأخير من الموشحة القصيرة هو الذي يتطلب وقفة متأنية فيما يلي بإذن الله.