لأيام خلت وقبل أن يعتدل مزاج الطقس هنا، ضجت في خاطري أمنية صغيرة، تمنيت أن أرى المطر، أو أكون في مكان ماطر، قلت لصديقتي أريد أن أشم رائحة الأرض بعد المطر، وفي الصباح كان المطر يهطل عندها بغزارة، وكان الشتاء قد هجم بلا رحمة، مع ذلك فصديقتي لا تتصالح كثيراً مع طقس الشتاء، ربما لأن الشتاء عندهم أقسى مما نتصور، أما عندنا، فقد اعتاد الناس على مزاج الصيف وطقوسه الحارة أكثر من اعتيادهم على الشتاء، تلك حكاية الجغرافيا التي لا دخل للإنسان بها، ولذلك ننسى الشتاء أحياناً، ونخلط في ثيابنا بين ملابس الصيف وملابس الشتاء، فبين أحذية الشتاء وصنادل الصيف فرق كبير لا نكاد نميزه !
عندما تنخفض درجة الحرارة بشكل ملحوظ يصبح حديث الناس كلهم منصباً على هذا البرد (العجيب) الذي جاء على غير موعد، حتى تطمئنهم النشرة الجوية بأنه بسبب منخفض جوي ذلك لأننا فقدنا ذاكرة البرد والشتاء لا أكثر، وعليه فنحن في كل شتاء يأتي نردد العبارة نفسها الشتاء هذا العام قاس جداً !
أعرف أناساً يزعجهم منظر الغيوم، وقد يخيفهم أحياناً، وهناك من تسبب لهم أجواء الشتاء الغائمة كآبة لا توصف، وبعضهم يفضل ارتقاب إيقاع الحياة الشتائية الجميلة من خلف زجاج النوافذ على الخروج في صباح شتائي ممطر خوفاً من حدوث ما لا تحمد عقباه، وعندي فإن الشتاء جميل جداً، وأجمل ما فيه أنه مختلف عن بقية أيام العام المتشابهة، ففيه وحده فقط تشعر أن سيمفونية الصيف المداري الطويل قد توقفت عن العزف الممل على أعصابنا الملتهبة، ووحده الشتاء يملك صلاحية كسر عصا المايسترو الصيفي وإلقائها في برك الأمطار المتجمعة في كل مكان.
شتاؤنا جميل يغري سكان الكوكب جميعهم، ويمنيهم بعطلات لا تنسى، وبرغم أيامه الخاطفة، وحرارته التي تذكر بصيف اوروبي منعش، إلا أنه شتاء ناعم ولطيف، فنحن حقيقة لا يمكننا احتمال أيام تصل درجات حرارتها لما دون العشر درجات سواء فوق الصفر أو تحته، أذكر تلك القصة التي كانت تقصها أمي علينا ونحن صغار، نتحلق معها حول موقد الجمر عن ذلك الرجل ذي الجاه والغنى، وقد عصفت رياح الشتاء خارج خيمته، بينما هو متسربل في الأصواف الفاخرة ومواقد النار تحيط به، تضخ الدفء في أوصاله المتجمدة، وبينما هو كذلك، دخل عليه رجل رقيق الحال والملابس فتعجب الغني لمرآه وبادره: كيف احتمالك لهذا الزمهرير في الخارج وبهذه الملابس؟ فأجابه الرجل: كل برده على قدره يا سيدي!
وهكذا نحن فدرجة حرارة وصلت الى 15 درجة مئوية يمكنها أن تسربل الناس في الأصواف والسترات الشتائية الدافئة، وتجعلهم يهتزون كريشة في مهب العاصفة، بينما تلعب الأطفال في كثير من عواصم الشتاء القاسي بكرات الثلج المتجمع في كل مكان، ويصنعون من تلال الثلج عروسا يلعبون بها.
جدتي التي تجاوت الثمانين تسخر من هذه الرجفة التي يبديها شباب اليوم، وتعلق بشكل لذيذ ذي مغزى: انظروا إلى شباب اليوم، وبينما يغرقون هم في ملابس شتاء وثيرة تتبختر هي بملابس أقرب لملابس الصيف، وتمضي متذكرة أيام الشتاء القديمة وتتمتم: تلك كانت أيام شتاء حقيقية.


ayya-222@hotmail.com