هذا الصباح لا يختلف عن سابقاته ولياليه، لوعة الفراق وفيض الشوق، صمت مطبق كأنما الوجود الصاخب المحيط أصيب فجأة بصاعقة الخَرَس فغارت أصواته، صراخه ولغطه، غار الوجود بكامله، أحسست أنني وحيد في صحراء متلاطمة الرمال والخواء سوَّر الجهات... وثمة شغف ينمو ويكبر بمواجهة هذا الخواء. وجود آخر في الأعماق ينمو ويستطيل على أنقاض وجود يضمحل حتى التلاشي. اللهفة والأشواق واللوعة، كيانها الذي يلغي ما عداه وتتأثث مرايا هذا الكيان بمخلوقات ورؤى واستيهامات هي عناصر هذا الكيان ومقصده ومبتغاه. ينظر العاشق المتيم بأناه الخاصة التي تحل محل الظواهر الموضوعية، محل الكون المستقر منذ ملايين السنين. هذه الأنا التي تسبح في كونها الأثيري توغل في تيهها أكثر كلما استبدت بها لواعج الشوق وأسى الفراق. فتحبط أي محاولة لإيقاظها من قبل عناصر الوجود الموضوعي. ولا أقول (الحقيقي) لأن الحقيقة محل خلاف بين الطرفين. كل واحد يدعي امتلاكها. وهي ضالة القلق والعاصفة، طريدة الزمان.الأنا العاشقة لا تروم اليقظة والدهاء والتدبير، عالمها هو هذا الزوغان السديمي في تلك العاطفة والهشاشة والاستلاب. ذات أضحى كل طموحها أن تمحي المسافة وبين من تهوى وتحب. *** المسافة كل أنواع المسافة. حلم التوحد و(الحلول) يفضي بها إلى نوع من التوحش، وهي تبحث في دياجير الظلام عن نور الحبيب المفْتَقد وتجسداته التي ما زالت بعيدة وعصية. تذليل هذا العصيان والوصول، هو القلب من نزوع العاشقة والغاية الأجََل والأسمى. ما ترك هذه الرسالة ربما تنحى نحو شيء من التجريد، بمثابة تعليق على رسائلك الكثيرة منها تلك التي استلت من (طوق الحمامة)... (وأعلم أن للحب حكماً، على النفوس ماضياً، وسلطاناً قاضياً، وأمراً لا يخالف، وحداً لا يعصى، وملكاً لا يتعدى، وطاعة لا تصرف، ونفاذاً لا يرد، وينقض المرر، ويَحُل المبرم، ويحلل الجامد، ويخل الثابت، ويحل الشغاف، ويُحِل الممنوع). وكما أشرت في الهاتف إلى الرسائل التي أبدعها خيالك الخصب الملتهب بالهوى والفراق، (..... ربما كان من الأفضل أن تنام بعيدا بأمان عن حية جائعة مثلي كنت سألتهمك كقطعة حلوى أو ربما سأتركك تذوب في دمي بعد كل قبلةٍ كمسكن قوي في الوريد) وأشير إلى رسائلك حول فشل الكتابة في تقريب المسافة، وأنه محض وهم، حيث الكلمات لا تصلح حتى كعزاء أمام هول الفراق ومكابدة الأشواق.