أسطوانات الغاز الجائلة، في الطرقات والأماكن المزدحمة، وأسطوانات الغاز المصلوبة في الأزقة وما بين البنايات والسكان الغافلين، هذه هي مدافن الموت التي يديرها بعض الذين تباروا من أجل سرعة الكسب، وتواروا بعيداً عن الالتزام الأخلاقي والإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع.. ضحايا كُثر يذهبون فرائس إثر هذه السلوكيات ولا تأتي المحاسبة إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن يكون الغاز السام، وما أشعله من نيران، قد قضى واقتضى الأمر. ولم يبق إلا السؤال الكبير: لماذا لا يستطيع بعض الناس أن يتحالفوا مع المجتمع الحضاري، ولماذا لا يستطيع هؤلاء أن ينحازوا إلى الضمير الحي ويحموا أنفسهم من العقاب، ويمنعوا الكوارث عن الأبرياء.. فوجود أسطوانات الغاز على ظهور بعض السيارات المكشوفة والتي برزت عظام حديدها، كالحمير الجائعة، لهو مشهد مزرٍ، يثير الفزع في النفوس، وكذلك زرع الأسطوانات لبعض المطاعم بين البنايات، واختلاط الروائح الكريهة من فوهات المطابخ، مع روائح الغاز المتسرب من هذه الأسطوانات الهالكة لهو منظر من مناظر الأسواق الصدئة في أحد البلدان الأفريقية العتيدة، المعاندة للتحضر.. وعندما تلمح مثل هذه الكتل المسلحة من الحديد المختزن للسموم، تشعر أن في أي لحظة من لحظات الزمن، سوف تسمع عن ضحية، وأن الضحية قبل أن تفارق الحياة وتسلم الروح، سوف تشير بأصبع الاتهام إلى ضمير إنساني مات، في لحظة من لحظات الزمن، وبالتالي لا بد من قطع دابر المشكلة حتى لا تتكرر المآسي، وحتى لا يذهب المزيد من الضحايا. عندما تنظر إلى هذه الأسطوانات الجائلة، لا تشعر أنها ذاهبة لعمل تجاري، وبحثاً عن سوق يتلقف هذا المنتج الاقتصادي المهم، وإنما تشعر أن هذه السيارات، وكأنها أفخاخ قناصة تبحث عن فريسة؛ لأن ما يملأ جوف هذه السيارات، هو أكداس من المتفجرات إذا لم تتم إحاطته بكل وسائل الحماية، فإنه قابل لمصافحة أجساد البشر، ومن يكونون بجواره في تلك اللحظة، بكفوف الغضب الكوني، وتحويل المكان إلى ساحة حرب.. مسؤولية مَنْ؟ نقول وبكل صراحة، إن المسؤولية أخلاقية، في الأول والآخِر، وهي تتعلق بالضمير الإنساني، وبشيم الناس، وقيمهم، ولكن هذا لا يمكن أن يجعلنا نغفل دور الجهات ذات الصلة وأولها، وآخرها دوائر البلديات، التي من واجبها أن تقف على هذه الكوارث، التي يسببها غير المبالين، وأن تضع القوانين الصارمة والجازمة التي لا تدع مجالاً للتهرب من المسؤولية، التي لا تترك الذين يريدون أن يفروا من القواعد والنظم، خارجاً عن ضوابط المجتمع وشروط السلامة اللازمة.. واجب هذه الجهات أنها تفرض شروطها الحاسمة، قبل استخراج أي رخصة تجارية من هذا النوع، ثم تأتي الملاحقة والمتابعة، ورصد من يزل أو يخل بالشروط لفرض العقوبات المناسبة بشأنه.. واجب البلديات ألا تعلن عن الحوادث، دائماً واجبها منع مثل هذه الأحداث المدمرة، والخطيرة، والتي لا علاج لها إلا قطع الدابر، واجتثاث المشكلة من جذورها.