موسم عودة حجاج بيت الله الحرام لم يكن يمر مرور الكرام على الحي، وأحياء المدينة كلها، على كل بيت كان يرفرف علم أخضر اللون نعرف منه مباشرة أن هناك حجاجا قدموا للتو وبذلك يتم الإعلان عن وصول الحجاج كي يذهب الجيران للسلام والاحتفاء والمباركة، وأخذ نصيبهم من هدايا الحج، فإن لم يخرجوا بـ “صوغة معتبرة” فعلى الأقل سيحظون ببضع جرعات من ماء زمزم، المهم أن الناس لم تكن تفوت فرصة السلام على الحجاج والقيام بواجب الاطمئنان والسلام عليهم.
“النشرة الخضراء” أو العلم الأخضر كان شعارا لا تخطئه العين، وكان الرمز أو “اللوجو” الذي ظل مرتبطا بعودة الحجاج وقد اختفى مع أشياء كثيرة اختفت بسبب تغير الأحوال، والأخضر كما يقول الكبار عندنا هو لون لباس أهل الجنة، وهو اللون الذي يرمز للحياة والربيع والفرح، وعودة الحجاج في تلك السنوات إلى أهلهم بعد مشاق رحلة الحج مرادف حقيقي للفرح بسلامتهم وعودتهم، فكثيرون كانوا يقضون حتفهم هناك لأن السفر لم يكن هينا ووسائل السفر كانت صعبة جدا، نحن لا نتحدث عن بداية القرن لكننا نتحدث عن سنوات بداية الاتحاد، فكثير من الناس كانوا لا يزالون فقراء لكنهم كانوا يصرون على تأدية الفريضة المقدسة.
لا زلت أتذكر فرحتي الغامرة بقدوم الحجاج الذين غادروا حينا وانتظرناهم بفارغ الصبر، كنا صغارا جدا على مسألة القيام بواجبات السلام والاطمئنان، لكننا كنا نهرع الى تلك البيوت الضاجة بالاصوات وخطوات الداخلين والخارجات لسبب آخر، هو الحصول على هدايا أو “صوغات” الحج كما كنا نسميها، ولا زالت تلك الهدايا مطبوعة في ذاكرتي بكامل تفاصيلها، واليوم كلما قادتني خطواتي الى مكة المقدسة ابحث في أسواقها عن تلك الهدايا الصغيرة فلا أجدها، فأقول يا خسارة كانت هدايا جميلة، وأنسى أن أطفال اليوم لن يفرحوا بها كما كنا نفرح نحن بها في ذلك الزمان، لأن أطفال اليوم يبحثون عن نوع آخر من الصوغة لا يقدر عليه كل الحجيج !
الله كم كانت هدايا زمان جميلة، ومثيرة للفرح والبهجة، آلة عرض الصور التي لا تكاد تتجاوز حجم علبة الكبريت، والمسدس الرشاش الذي عادة ما يكون من نصيب الأولاد (هناك اتفاق ضمني على أن الحرب وآلاتها هي شأن ذكوري بحت) الصواية أو الصفارة الحمراء اللون، والمزمار وآلة موسيقية أخرى احتفظت بها زمنا ثم ضاعت مع ما ضاع، والخواتم والعقود الزجاجية الملونة، وسجادة الصلاة والمسابيح الملونة و”غرشة” ماء زمزم، لا أتذكر أن الحجيج كانوا يأتون بأشياء أكثر من ذلك، لكن هذه الأشياء البسيطة كانت كافية لأن تغمر يومنا ذاك بأقصى درجات البهجة.
كنا ننسبها للحج ولمكة وكنا نعتقد أنها تصنع هناك، وحين كبرنا عرفنا أن كل صوغات الحج تأتي حتى هذه اللحظة من بلاد لم تكن تعترف بالحج ولا بأي دين، فالصين الشيوعية هي أكثر بلاد العالم تصنيعا لسجاجيد الصلاة والمسابيح وغيرها، اليوم بعد أن صارت الصين ورشة العالم وسوقه الأرخص والزكثر تنوعا عرفنا أن مزمار الحج والسجادة المرسوم عليها الكعبة والرشاش والكثير ليس سوى “ميد إن تشاينا”.



ayya-222@hotmail.com