حدثني أيها البحر، أيها الكائن الأزلي الغامض، أنسيت تلك الطفلة التي تربت على رمال شطآنك، تلك الطفلة اللاهية في انتظار أبيها في تلك الغرفة الخشبية القابعة في وحدة موحشة، لاحتضان أدوات الصيادين وأغراض البحارة، في تلك الطبيعة البكر، تحت تلك السماء الصافية، بلا خوف من أجنبي أو غريب.. هل نسيت تلك الطفلة التي كانت تردد الأناشيد، وأهازيج الصيادين، أنسيت بنت النوخدة التي تعلقت بك لدرجة تمنت لو أنها كانت فتى لتصبح نوخذة يعبر عباب البحار والخلجان، مغامر لا يهاب ولا يخشى أعاصير الزمان، ولا موج البحر ولا ريح الشمال، ويلف الأرض شرقاً وغرباً وبين الماء والماء وبعيداً عن الشطآن، كعابر سبيل يدق أبواب الموانئ والمرافئ بلا انكسار، بحثاً عن الكنز وعن بنت البحّار، تماماً كوالدها أيام الشباب، قبل أن تكون هي واخوتها في هذا الوجود وهذا المكان.. آه أيها اليم لو كنت تعلم، كلما أراك أو أسمع صوتك تعود بي ذاكرة الأيام، ويظهر والدي مبحراً على صهوة «لنشه»، بعد أن ودع «بومه» وحياة المغامرة، يحملني على «لنشه» الذي قضينا عليه ليالي وأياماً، وسنوات طوال حمل عليه «يراييره» وشباكه لينصبها في عرض البحر ويعود إليها بعد أيام.. ضحكته التي تجلجل في المكان كلما استغربت منه، وأنا الطفلة الصغيرة، كيف يعرف الأمكنة في عرض البحر، وكيف يعود إليها مرة بعد مرة، وكيف ينقلنا من مكان إلى مكان، ومن جزيرة إلى جزيرة بين خلجان أبوظبي وجزرها الكثيرة؟ اجابته العفوية الفخورة الدائمة، لأنه ولد في البحر، وأنه ابن البحر وخليله، وأنه أمين سره ورفيقه، وأنه يعرفه كباطن الكف وظاهره.. أخبرني المزيد أيها البحر الأسطوري القديم، كيف تركته يفارق، وقد أحبك وعرف كل أصدافك، وداعب مرجانك ولامس أحشاءك.. أخبرني عن أسرارك وعن اللؤلؤ المكنون في ظلمة أحشائك، وعن شقائق النعمان في أعمق أعماقك، وعن موج البحر وفيروز الشطآن.. أخبرني عن شقاوة الصغار، وعن السباق مع امتداد البحر وانحساره، وعن التفتيش عن بيض طيور «السر»، ومشاغبات قباقيب البحر بين صخور جزيرة «الحالة»، وعن صيد شواهين براري الجزر المهجورة المجهولة، وعن البحث عن الكنز المدفون حتى لو كان العثور عليه استحالة.. أخبرني المزيد عن رفيقك فلم يعد موجوداً ولا «لنشه» ولا جزيرة «الحالة».. أخبرني فلم يبق من رفاقه إلا أنت وبنت النوخذة وموج البحر ورياحه.. أمل المهيري Amal.mehairi@admedia.ae