يقال إن الطعام إما أن يطهى بمحبة وإما أن يتم تناوله بمحبة كي تشعر بلذته وتستمتع بتذوقه، ويستفيد منه جسدك، لكن كيف؟ يقول العلماء إنك حين تأكل ما تطهوه الأم أو الحبيبة تشعر بأنك مقبل على الطعام مستعد لتناوله بحميمية وحماسة جميلة، والأهم أنك تكون متأكداً من لذة طعمه وجودته ونظافته، ما يجعلك محباً له بشكل تلقائي، إذاً فأنت تتناول طعامك في هذه الحالة بمحبة متبادلة، فقد أعده لك محب (الأم) وتناولته أنت بالحب أيضاً، لكن ماذا لو لم نحصل على هذا الطعام المصنوع بالحب؟ عندما كنا صغاراً - وكلنا عشنا هذه الطفولة في بلداننا العربية - كنا نصحو صباحاً على أصوات الأمهات، لم ينتزعنا أحد من فراشنا بالقوة أو بالتهديد أو بتلك الكلمات الغريبة المبهمة كما تفعل مربيات هذا الزمان العجيب، بعد ذلك كنا نستعد للمدرسة بتثاقل في أغلب الأحيان، فما من طفل يطير إلى المدرسة بمجرد أن يفتح عينيه طبعاً، كنا نرتدي ملابس المدرسة ثم إلى مطبخ جدتي مباشرة، حيث نجدها تجلس أمام موقد الجمر تعد خبز الفطور للعائلة، كان طعام الفطور لذيذاً جداً ما زال طعمه في فمي حتى اللحظة، الخبز الساخن، حليب بقرتنا اللذيذ، السكر والسمن البلدي ذو الرائحة المميزة، كان جو المطبخ يعبق برائحة ذلك كله، كان جواً دافئاً وبخاصة في صباحات الشتاء الباردة . ظللنا نتناول طعام الإفطار بهذه الطريقة الحميمة من يدي جدتي زمناً طويلاً، لم يكن الصغار في العائلة يمرضون أو يتقيؤون دائماً كما هي حالهم اليوم بمجرد تناولهم هذه المأكولات البائسة المعبأة في أكياس ملونة لامعة وضعت عليها صور حيوانات وأبطال خرافيين ومخيفين لترغيبهم فيها أكثر، إنها الأغذية القاتلة التي تتسبب دون غيرها في اعتلال صحتهم بالشكل الذي نراه اليوم، وأعود بالذاكرة إلى جلسة الصباح في مطبخ بيتنا ورائحة خبز جدتي لأعترف بأن الطعام وكل شيء ما لم يصنع بالمحبة فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع، مع ذلك فإن أمهات هذا الزمان على محبتهن وحرصهن على أطفالهن إلا أن هذه الحقيقة تبدو غائبة عنهن بشكل كامل، وفي الوقت نفسه فهن مستسلمات تماماً أمام رغبات الصغار في تناول سموم الأغذية السريعة، وعاجزات عن أن يقمن بمهمة جدتي الصباحية لانشغالاتهن التي لا تنتهي!! لقد ذهبت المرأة إلى العمل، وحققت إنجازاتها الخاصة والعامة، وتطورت المجتمعات كثيراً، انتشر العلم، وصار العمل حقاً مكتسباً ومصاناً للنساء العربيات بلا جدال يذكر، تعلمت ونالت أعلى المراكز العلمية، وأثبتت جدارتها خلال تاريخ طويل من المواجهات والتحديات والجهد مدعومة بحزمة قرارات حكومية خدمت تلك المسيرة، كل ذلك يحظى بالتقدير والإعجاب، لكن السؤال ماذا خسرت الأسرة من هذه المعركة وماذا ربحت أيضاً؟ الحمد لله أن جدتي لم تخض هذه المعركة ولا حتى والدتي، وبقيت أمي تعد لنا إفطار الصباح وطعام الغداء البسيط جداً ووجبة العشاء المتناهية البساطة حتى قاربنا على التخرج في المدرسة الثانوية، حين فاجأنا والدي بصبي هندي سيتولى مهمة الخدمة في البيت !! كنا جميعاً إخوتي الأولاد الستة وشقيقتي الوحيدة وأنا قد تجاوزنا الطفولة بسنوات حين جاء ذلك الصبي، كانت صحتنا جيدة ولم تقل والدتي يوماً إن أحداً منا قد اعتلت صحته أو تكرر ذهابه إلى الطبيب مثلاً، أتذكر كل ذلك وأنا أرى أبناء إخوتي الصغار اليوم تقودهم أمهاتهم بشكل يبدو يومياً إلى عيادة الطبيب !! .