جلس بعيداً في الزاوية، وتحدث بصوت خافت مع أحد أصدقائه الأعزاء الذين قضى معهم أحلى سنوات شبابه وعمره عندما تزاملا على مدى سنوات في نفس الوظيفة. وسأل: كيف هي حياتك بعد التقاعد؟ أجاب صديقه: لا بأس فيها كثير من الراحة والملل، وقليل من العمل والنشاط.. قال الثاني: ولكنك بالكاد بلغت السنة الأولى بعد الأربعين، وهذا هو العمر المثالي للعمل والعطاء في كل المجالات والذي يستطيع المرء خلاله أن يقدم الكثير، نظراً لغزارة تجربته وخبرته في هذه الحياة.. واستطرد: «أنا على عكسك تماماً استمتع بكل دقيقة من وقتي، أسافر وأعود، أمارس رياضتي المفضلة بانتظام، أحرص على تقديم واجباتي الاجتماعية في جميع المناسبات، سواء الحزينة أم السعيدة، كما أن وقتي مع العائلة والأصدقاء أصبح طويلاً، باختصار أنا سعيد بالحياة الجديدة، وأنظر إليها بتفاؤل، كما أنني بدأت في دراسة جدوى لمشروع صغير، استكمل معه المشوار من جديد.. كنت استمع بإنصات للحوار الذي أخذ طابع الجد، وهما يتحدثان، ثم ذهب خيالي بعيداً، وقلت في نفسي: كيف ستكون حياتك بعد أن تحال إلى التقاعد، شأنك شأن كل موظفي هذه الأيام.. هل ستختار النموذج الأول أم تميل إلى الثاني؟ قلت لنفسي بصوت كدت أسمعه: لكل إنسان تركيبته في هذه الحياة، فهناك المتفائل المتحمس الطموح القادر على تجاوز الأزمات وتحويلها إلى نجاحات، وهناك المحبط صاحب النظرة السوداوية المتشائمة الذي لا يستطيع أن يتخطى أبسط مشاكله ومطباته في هذه الحياة، وعليك الاختيار بين الاثنين، وتذكرت مقولة الفيلسوف الألماني الشهير جوته: «إذا كان الألم يسلب قدرة الإنسان على الكلام، فقد وهبني الله ملكة التعبير عن ما أشعر به من ألم». إنَّ كثيرين من الموظفين والكادحين في مؤسساتنا ووزاراتنا أشبه بمتقاعدين، وإن رأيتهم في مكاتبهم كل صباح.. فالمنتج الحقيقي هو من تلك الشخصيات القادرة على الابتكار والتجديد والتطوير، وترك البصمة المؤثرة سواء في عمله أو في حياته وعلاقاته الشخصية، حتى لو لم يكن من الذين يعملون في هذه المؤسسات والوزارات. فجأة نظرت إلى الزاوية فلم أجد صديقيَّ.. غابت صورتهما عني، وتبين لي أنَّ هذا كان حواراً داخلياً ما بين عقلي وقلبي! إبراهيم العسم