هذه الأيام من العام ترفل بالطمأنينة والروحانية الخاصة، إنه موسم شد الرحال إلى البيت العتيق، موسم مشاهدة قنوات التلفزيون وهي تبث صور الحجاج الذين جاءوا رجالا وعلى كل ضامر إلى الأراضي المقدسة، موسم الأيام العطرة التي نشعر بها حتى وإن لم نكن بين حجاج هذا العام. الحجيج الذين ينتظرون الوقوف غداً على صعيد عرفات الطاهر، تركوا كل متاع الدنيا وذهبوا شعثاً غبراً إلى الأراضي المقدسة، وهناك يرجون رضى الله عز وجل، والحج المبرور الذي يعود منه الحاج كيوم ولدته أمه. حين كنا صغاراً كان موسم الحج يبدأ منذ منتصف شهر ذي القعدة، يأتي الحجاج ليمرّوا على بيوت المعارف والأصدقاء والأهل، يوادعونهم قبل شد الرحال للسفر العظيم، يلتمسون السماح على أي خطأ ارتكبوه ولو من دون قصد، يحاولون تصفية القلوب وسد الديون ورد المظالم قبل حزم الأمتعة لرحلة العمر. على مدى سفرهم ننتظر مكالمات خاطفة يقفون لإجرائها بالطابور أمام الهاتف العمومي، يتصلون ببطاقة يثقبها الهاتف كدليل على الرصيد! تتعالى أصواتهم بالسلام ويطلبون منّا الدعاء ونحن نلح عليهم أن لا ينسونا من الدعاء في الأراضي المقدسة، اتصال واحد كل يومين أو ثلاثة لنعرف فقط أنهم بخير. وحينما يذهبون نشعر بالعيد ناقصاً دون الجد الغالي والجدة الطيبة، ونجهز الأعلام الخضراء لتعليقها على الدار تيمناً بوصلوهم حين يعودون، وليعرف أهل الفريج أن في بيتنا حاجا. في يوم وصول الحجاج، نتجمع نحن الصغار كلنا في البيت، نصعد فوق السطح عيوننا موجهة للشارع كي نرى الحافلة الصغيرة التي ستأتي بالحجاج، قبل أن ننزل راكضين لنبشر أهل البيت بوصولهم. تصل الحقائب «التي ولسبب غريب كان لونها أحمر!».. نصطف بجوار الجدّ في انتظار الهدايا التي طالما منيّنا النفس بها، الكاميرا ذات الفيلم المدور الذي يعكس مناسك الحج، التلفزيونات الصغيرة التي نرى من ثقبها صور جبل عرفات وتقبيل الحجر الأسود، القلائد التي يتدلى منها شكل الكعبة، المسدسات ذات الصوت المزعج، والأهم المكسرات التي نملأ بها جيوبنا، ونظل نغرف منها بالخباء لعدة أسابيع. تتنعم النساء بقطع القماش الحريري المجلوبة من مكة، والكحل العربي، وعطر الحجر الأسود وللرجال المسابح الطويلة وسجادات الصلاة خاصة تلك المزودة بالبوصلة برغم أن لا أحد يعرف استعمالها! كل تفاصيل الحج كنا نجتمع لنسمعها من الكبار في جلسات التهنئة بالحج التي لا تنتهي، ومسلسل الذبائح التي تنحر وتوزع بسلامة الحجاج، والعزائم التي لا تنتهي وتمثل لصغار العائلة مهرجان لعب متواصلا. كل تلك الحكايا المرتبطة في أذهاننا بالحج والحجاج تعود للنفس حين يعود موسم الحج، تريد الروح تلمس التفاصيل في الطريق للبيت العتيق، نود أن نعيش تلك الإيمانيات الخاصة التي تأتي مرة في العام وتظل طوال العمر. فتحية البلوشي