في مكان ما التقيت أستاذة باكستانية تدرس في إحدى الجامعات الخاصة بدبي، دار حديث بيننا وصل إلى المنطقة الأكثر حساسية، الهوية، تقول الأستاذة: طلابي لديهم خوف كبير على هويتهم ولديهم وعي أكبر بأهمية الهوية وبالتحديات التي تحيط بهم من كل مكان، إنهم يشعرون بالحيرة أحياناً بسبب ما يحدث حولهم في المجتمع، لكنهم يصرخون بغضب في مواجهة من يريد الاعتداء على هويتهم الثقافية، كانت تلك الأستاذة تكرر كثيراً جملة: أنا باكستانية يعني أجنبية لكنني بصدق أتفهم شعورهم ومخاوفهم لأنني لو كنت مكانهم لشعرت بنفس ما يشعرون به!! فتاة شابة من طالبات كليات التقنية قالت لي ذات مرة، تصف حال الشباب من جيل اليوم الذي لم يشهد سنوات البدايات والتكوين، وربما تشكَّل وعيه على ثقافة معولمة أكثر منها محلية إماراتية، فهم اليوم يتعاطون ثقافة مُغرَّبة حوَّلتهم إلى ما يشبه المواطن العالمي لا المواطن الإماراتي، لكن الدعوات التي يسمعونها ويتابعونها حول الهوية تجعلهم يتساءلون عن ماهية الهوية الوطنية؟ هل هي الحفاظ على الزي الوطني؟ هل هي الحديث باللهجة “باللكنة” الإماراتية التي يتحدثها أجدادهم والتي بدأت تتضاءل شيئاً فشيئاً؟ هل هي رقصات اليولة والأكلات الشعبية، و.. إلخ.. يريدون بحرص أن نقول لهم ما هي الهوية؟ فإن كانت الهوية الوطنية تعني “تغلغل الوطن بكل تفاصيله من لغة وعادات وفن وآداب في وعي ومشاعر وعقل أبنائه وبناته، فكيف يمكن قياس درجة هذا التغلغل؟ بدا السجال باكراً حول الموضوع وبدت أزمة الهوية الوطنية موضوعاً مثيراً للقلق لدى الكثيرين ولم يقتنع البعض بأن تحديات الهوية تكمن فقط في طغيان التوجه نحو العالمية وتعولم الإمارات بوتيرة متسارعة، ولا بطغيان المحلي وانحسار الاتحادي يوماً بعد يوم بما يعنيه ذلك من تأثير كبير على مكانة ومفهوم الاتحاد في النفوس، ذلك أن تحديات الهوية أكبر وأخطر بكثير! نعود إلى تساؤل الطالبة حول مفهوم الهوية لنجد أن تساؤل مواطنة إماراتية عن ماهية الهوية، ووقوعها في متاهة الخلط بين الواقع الذي تعيشه وحديث الهوية الدائر حولها، بين اللغة العربية المطلوب الاعتزاز بها وترسيخها كأحد محددات الهوية مثلاً، وبين الإنجليزية المفروضة عليها في الفصل الدراسي أو في فناء الجامعة وتحوّلها إلى لغة التخاطب والتعليم الأولى في بلد يعاني من تآكل يومي لهويته، هذه الطالبة تمثل جيلاً كاملاً يحمل أسئلة الهوية ومفارقاتها بشكل واقعي ومؤلم، هذا الجيل هو في الحقيقة أحد أبرز الدلائل على أزمة الهوية، وعلى أننا لم نفعل بعد شيئاً لإنقاذها أكثر من الندوات والكلام! بينما يحتاج موضوع كهذا إلى ما هو أكبر وأعمق، وقد بدأت تتضح منذ فترة ملامح عمل منظم في هذا الاتجاه وإن لم يتبلور بعد أو تتحدد ملامحه. على كل مؤسسات المجتمع أن تعمل في إطار بعث وإحياء مفهوم الهوية والمواطنة والانتماء في نفوس الجيل الشاب الذي يتعرض اليوم إلى الكثير من عمليات غسل الدماغ والإدماج الناعم في حضارة العولمة بمعناها السلبي، بمعنى غرس اللامبالاة بمفردات هويته وخاصة لغته وثقافته الدينية ونظام العلاقات العام والخاص في المجتمع، هذا الشعور باللامبالاة وعدم الانتباه منزلق خطير يجب أن تتنبه له الأسرة ونظام التعليم ووسائل الإعلام وتعالجه بحرص وعمق شديدين!