في لحظة خاطفة، سريعة كومضة برق، يتصرف البعض بطريقة لا يمكن أن يحكم عليها سوى صاحبها، لحظة لا يعيها ولا يمكن لأحد أن يعيها سواه ، قد تكون جنوناً أو شيئاً أكبر أو أقل ، شيئاً بين الجنون وقمة العقلانية، بين التهور والحقيقة ، لكن الثابت أن تلك اللحظة لا يمكن تكرارها بأي حال من الأحوال ، كتلك اللحظة التي وجد فيها الشاب التونسي محمد البوعزيزي نفسه يسكب البنزين على جسده ويشعل النار ليشعل أمة بأكملها دون أن يخطط لأي شيء من هذه التداعيات الكبرى التي حصلت بعد موته ، محمد الذي ربما لا يعي شيئاً سوى وجوده في تلك اللحظة ينظر إليه الناس على أنه مفجر ثورة وينظر إليه آخرون على أنه شخص قتل نفسه يائساً لشدة انسداد الآفق أمامه ، بينما يقول البعض إنه مجرد شاب مستهتر كان يتعاطى الحشيش !!
القضية ليست في كيف نرى محمد أو أمثاله، القضية من أية زاوية ننظر أو ينظر الناس لفعل محمد ، تلك اشكالية يمكن بحثها لكن مالا يمكن بحثه أو الإجابة عنه هو كيف كان محمد يفكر وهو يحرق نفسه يا ترى ؟ أكان فعلا يفكر في تونس وشبابها العاطل عن العمل ؟ أكان يفكر يائساً في الخلاص من الدنيا وما فيها ؟ وبعيداً عن رؤيتنا الدينية ورفضنا المطلق لفعل قتل النفس أما كان من الأسهل له أن يختار طريقاً آخر غير هذه الميتة البشعة ؟ ثم هل الخلاص من مشاكل الحياة تحتاج هذه العلنية وكأنه ينفذ فعلا يخص الجميع ؟
الجدير بالتفكير هو أفعالنا التي نقوم بها في لحظة وعي كامل تشبه الجنون والتي لا ندري أحياناً لماذا فعلناها ، لكننا نعترف بيننا وبين أنفسنا بإننا كنا في أكثر حالاتنا صدقاً مع النفس لحظتها، ولنتذكر ذلك الشاب الذي كتب على أكبر يافطة اعلانية في إحدى العواصم إعلان حب لفتاة يحبها وكانت تتجاهله تماماً فلم يجد أفضل من هذه الطريقة العلنية الصارخة – وربما الفاضحة للفتاة في مجتمعاتنا العربية – ليعترف لها بحبه ، فهل كان الشاب مجنوناً؟ أم أنه كان شديد الصدق مع نفسه ؟
في روايته “المصرية” يرسم الكاتب الفرنسي جيلبرت سينويه مشهداً شديد الكثافة والدلالة على طريقة البعض في التعبير عن أنفسهم بمنتهى الصدق الذي يراه الآخرون جنوناً ، فبطل القصة يحب فتاة من طبقة اجتماعية غنية جداً ، وقد كان هو من أصحاب الثراء المحدثين ، وكانت تصده دائماً ولا تعيره انتباهاً ، فكيف تصرف ؟ في لحظة كما يقول لم يفكر فيها ، ذهب لشراء كل محصول الورد في البلدة التي يسكنها وملأ بها عربات ضخمة وجاء فجراً مقتحماً سور حديقة القصر الذي تسكنه ، وسكب براعم الورد في كل مكان حيث غطى مداخل القصر ومارجه ، ثم نادى عليها بأعلى ما استطاع ، وحين أطلت فزعة من نافذتها لم تصدق جنون العاشق ولم تعرف كيف وقعت في غرامه في تلك اللحظة.
حين نفكر مرتين أحياناً تفوتنا مبادرات تبدو لوهلة أنها جنون، لكنها ربما كانت الطريقة الوحيدة للتعبيرعما نريد أو للحصول عليه.


ayya-222@hotmail.com