هو الوشّاح الثاني في عهد الموحدين الذي امتد ثمانين عاما، واسمه أحمد ابن مالك السرقسطي. يقول عنه المؤرخون أنه “كان من أهل الأدب ويخاطب خطاب الوزراء وذي الحسب، له شعر فائق وترسل رائق”، ومن أخباره فى جيش التوشيح أن “الملوك كلفت به فاستوزرته مثل أبيه، واستكتبته وله اطلاع واسع على الفلسفة”، وقد رحل إلى مصر واشتهر هناك، غير أنه يختلف عن ابن مالك النحوي صاحب الألفية الشهيرة. وقد ذكر أنه توفي بإشبيلية سنة 571 هجرية. ويلاحظ على موشحاته أنها تمزج غالبا بين الخمريات والغزل والمديح للحكام، ولعل هذا من مقتضيات المشاركة في السلطة، ومن أطرف غزلياته قوله: ماذا حمّلوا/ فؤاد الشجيّ يوم ودعوا مالي بالنوى/ يد تستطاع ونار الجوى/ يذكيها الوداع وسر الهوى/ بالدمع يذاع فكم تهمى/ عيون وتلتاع أضلعُ على أننا نبخس الشاعر حقه إن فهمنا هواه الملتاع باعتباره عشقا فرديا لحسناء أندلسية فحسب، فقد عاش فى واحدة من أشد فترات الصراع العربي الإسباني ضراوة واحتداما، حيث تساقطت فيها كثير من الحواضر الإسبانية الزاهرة مثل قرطبة عاصمة الخلافة، وبلنسية بستان المشرق، وجزر الجنة فى كناريا وغيرها.. ولابد لنا أن نتمثل هذا الوداع الملتاع باعتباره إشارة للفقد الأليم والترحال الكئيب: هل يُرجّى إياب/ لعهد الحبائب إذ غصن الشباب/ مطول الجوانب ووصل الكعاب/ مبذول الطالب فلا تبحلُ/ بالوصل ولا الصب يقنعُ هذه اللوعة الحارقة لعهد الحبائب عندما كان الشباب فى ريعانه، ووصل الحسان متاح لمن يطلبه دون بخل ولا اكتفاء إنما يمثل ذلك حنينا جارفا لما استكن في ضلوع الشاعر من إحساس بالضياع والفقد، وإن لم يتبين بوضوح كنه مشاعره في أعماقها البعيدة، وليس من الضروري في حساب النقد اليوم أن يقصد الشاعر ذلك أو يعنيه بشكل واعٍ، إذ غالبا ما تحمل النصوص أبعادا لم يلتفت إليها المبدعون أنفسهم فيدهشون من فهم المتلقين لها. ثم يقول: لا أسلو ولا/ أصغي للّواحي بل أصبو إلى هضيم الوشاح يجيل الطلا/ ما بين الأقاح فلو يعدل/ ما بت أظما وينقع فهو لا يسلو أحبابه، ولا يصغي لمن يلومونه في هواه، بل يظل يصبو إليه في أرهف صورة وأحلاها من الرشاقة ودقة الخصر، ثم يتصوره وهو يدور بكأس المحبة بين الزهور والأقاحي، ولو كان هذا الحبيب عادلا في معاملته لما بات يظمأ وهو ينقع غلته بالشراب. علينا أيضا أن نتجاوز المعنى الحرفي للأبيات، حيث تصبح كلمة الخمر رمزا جامعا لألوان المتعة والنعيم، وتحمل كلمات القصيدة ما هو أبعد وأشمل من دلالتها الحرفية، فالشعراء لا يكررون الكلمات ذاتها بنفس المعاني، بل يحفرون بها أخاديد جديدة تصل إلى أفهام وقلوب قرائهم.