وقفت الأم الأوروبية مع طفلها الصغير، لم يتجاوز السنتين أو أقل، أصرّ أن يمشي إلى حيث أصيص النبات الموضوع في ركن قصي من المركز التجاري، تركته يسير، ويدور، ويقع، ويقوم، ثم يقول كلاما كثيرا لا تفهم منه شيئا، جاءت وجلست بجانبه وهو يحاول أن يقول لها ما يثير اهتمامه، وتبدي هي الاهتمام نفسه وتواصل الحوار معه ومجاراته. تمر بجانبها إمرأه إماراتية، تسير خلفها خادمة تحمل طفلاً تجاوز الثلاث سنوات، يقول الطفل "ماما" فتلتفت إليه بغضب وتقول"أص، أدب" فيصمت الطفل في حضن الخادمة. عندما أتفرج على الأفلام الأجنبية يدهشني الممثلون الأطفال، يؤدون أدوارهم دوماً وكأنها حقيقة، لا تشعر أن الطفل يمثل إطلاقاً، في حين يبدو الطفل الممثل في الأفلام العربية وكأنه يردد النشيد الوطني في طابور الصباح. الطفل الأوروبي تتاح له الحياة يختبرها كما يشاء، تتفتح إمكانياته من بداية حياته، فيبدو طريقه أكثر وضوحا، يمكن أن يكون فناناً، طبيباً، مهندساً، أديباً، عالماً، ممكن أن يكون أي شيء يريده ويستشعر تمكنه منه. في حين عندنا نصل للأربعين وتجد الواحد يقول: "لا أعرف ماذا أريد أن أكون!". وتسمع الكثيرون يرددون "لا موهبة لدينا!"، بالطبع! المواهب لا تظهر بالضرورة مثل نبت بري، المواهب تُكتشف من الصغر وتتطور وتصقل بالتجربة والخطأ. كيف يمكن لإنسان يقال له حال ينطق "صه" أن يجد صوته، أن يعرف من هو وماذا يريد وماذا يمكن أن يفعل في هذه الحياة؟! يظل الإنسان لدينا مشروعا فاشلا حتى يثبت نجاحه. عليه أن يحارب طواحين الهواء ليقول إنه موجود وأن له صوتا مميزا وأنه مختلف وله نكهة وذائقة خاصة ولديه فكر. "يورّيكا" رددها أرخميدس، الفيلسوف والعالم الصقلي حين اكتشف القاعدة الفيزيائية الشهيرة المعروفة بقانون أرخميدس، "يوريكا" يعني وجدتها، ماهي؟ هي "الفكرة". ولكي تجد أي فكرة يجب أن يكون لديك "فكر" ولكي يكون لك فكر يجب أن تستخدم حواسك الخمس، حواسك أنت وليس حواس أبيك أو جدك وقبيلتك، حواسك أنت، أنت ذو شأن، أنت مهم، أنت لك صوتك، لك عقلك، أنت لك رأي، لأنك تسمع وترى وتبني وفقا لما سمعت ورأيت رؤاك الخاصة. ولكي تستخدم حواسك الخمس لتكوّن رؤاك الخاصة يجب أن تتمكن من نطق "ماما" دون أن يقال لك "صه، تأدب". الكلام ليس ضد الأدب؛ أن تكون لك شخصية ليس ضد الأدب، أن تكون إنساناً ذا إرادة حرة ليس ضد الأدب. أن تقف مثل فزاعة الحقل لا تهش ولا تنش ليس أدباً، هذا تبلد وبلادة وقلة حيلة، وهذه صفات الإنسان المسكين، وأنت لست مسكيناً، أنت قوي لأنك بخير ولأن الله وهبك نعماً كثيرة، فلا تقمع حواسك لأجل أن تكون "مؤدباً" بمنطق الخائفين على الحياة من الحياة. صحيح أن الإنسان يجب أن يحرص على سلامته، فلا يلقي بنفسه إلى المهالك بحجة استكشاف إمكانيات الحياة، ولكن التدثر من الحياة بالموت ليس حياة. "أن تكون" أي أن تستخدم كل هبات الله، فتشكره على وجودك بالتعلم وتعبده بالتفكر وتزرع الخير بأن تكون بكل إمكانياتك، حينها فقط يمكن أن تكون أنت بكل حقيقتك دون زيف يأكل من وجودك جوهره. Mariam_alsaedi@hotmail.com