الأم مدرسة وحضن ودفء وغصن وسكن.. الأم المكان الذي يخبئ فيه الأبناء أسرارهم وأخبارهم ومشاعرهم، وإذا جف هذا المعين مالت أغصان الأبناء وذوت وذبلت وانكسرت ثم ذهبت إلى خشاش تذروه الرياح.. لذة الانتماء إلى صدر الأم والنهل من نبعه لهو الكسب والسكب والنخب الذي منه تحيى الروح وتنفرج الأسارير وبعد ذلك يبدو الأفق منشرحاً واضحاً يملأ الكيان البشري بالفرح ويلون عينيه بألوان زاهية مزخرفة زاهرة مزدهرة بالحياة والحيوية.. عندما يخرج الأبناء من شرنقة الأم فإنهم يدلفون أبواب الدنيا بقلوب طرية ندية صفية معافاة من أعراض وأمراض الاكتئاب والبؤس الدنيوي، وقد أظهرت دراسة ألمانية أن 75% من الأطفال الذين رضعوا طبيعياً نشأوا في عافية وصحة ولم يعانوا من حالات الاكتئاب.. ومن الطبيعي أن تكون النتيجة صحيحة وسليمة، فمنع الطفل من الرضاعة الطبيعية كانتزاع الجذر الصغير من التربة، فلابد أن تجف عروقه وييبس ويعبس ويخنس ويندس في ثغور العبثية فاقداً الهوية منكسراً بلا طوية، مندحراً في هاوية الاحتباس النفسي، غائصاً في أتون اليباس الحسي.. فوجود الطفل في حضن الأم يمنحه الأمان والاطمئنان ويدرأ عنه الخوف من المكان والزمان يلفه بدفء الموطئ ويزمله بأشواق وجودية تمنحه صلابة الذات. وأي تصرف إنساني خارج حدود الطبيعة ومناف للفطرة يؤدي إلى سلوك مضاد منحرف منجرف باتجاهات غرائبية، مرضية، لذلك فإن في هذا العصر الذي انغمست فيه الأمهات في صبوات الرشاقة وأناقة الجسد جعل المجتمعات البشرية تدفع أثماناً باهظة لما تبذله من جهود في مواجهة حالات مرضية نفسية سببها الرئيسي الجفاف العاطفي الذي عانى منه الصغار ولما نشأوا وكبروا صاروا دمامل متقيحة وأحياناً قنابل حارقة تكوي أكباد الأسر ثم المجتمع الكبير الذي يواجه موجات عالية من الحالات المرضية والتي قد توصل الأفراد إلى ارتكاب جرائم يندى لها جبين الإنسانية.. اتجاه المرأة نحو تحسين الصورة الجسدية والحفاظ على البدن يكون في كثير من الأحيان على حساب التربية وعلى حساب نفوس وعقول لا ذنب لها في أن تدفع ثمن جمال بنات حواء، لا ذنب لهؤلاء في أن يكونوا كبش فداء لمن أرادت أن تهب وتخب وتحب من يحب أن تصير المرأة جسداً بلا روح وتقدم الولاء والطاعة لسطوة الحاضر المحاصر برغبات واحتمالات لا يحتملها واقع التربية السليمة وترفضها فطرة الإنسان رفضاً تتضح معالمه عندما يكبر الصغار ويصيرون عبئاً ثقيلاً على الأم قبل غيرها ولا ينفع حين الأسف على ما فات.. ولا ينفع لوم المجني عليه لأنه في نفس الوقت يكون المجرم والضحية. علي أبو الريش | marafea@emi.ae