توقفت سيارة الدفع الرباعي السوداء التي تشبه سيارات الخطف في الأفلام، ونزل منها سائقها الأفريقي ببدلته السوداء الضيقة قليلاً، وشعره المحلوق اللامع الذي تستقر عليه نظارة شمسية لم تكن في وقتها، لم تنقصه إلا السماعة الخفية المتدلي خيطها خلف أذنه ليكون من حرّاس السفارات أو مرافقاً لشخصية ثرية. ما أن رآه د. نجم عبد الكريم، ورأى سيارته، حتى وقع في قلبه موقع رضا، فرضى أن ينفحه مئة وخمسين يورو نقداً، واشترط السائق عدم الدفع بالبطاقة أو قبول “الشيك”، رغم اعتراضي، وكأنني ما زلت طالباً غير نجيب في الجامعة، والذي يظل يحذر مواطنيه وزواره من الاستغلال السياحي، كلما جاءوا للمدينة التي يدرس فيها، كنوع من النباهة غير الضرورية. حملت السيارة أثقال نجم وحقائبه، وتلك الصورة الجدارية له، و”تفيزر” بجانب السائق، فكانا أشبه بمصارعين خصمين سيلتقيان حتماً قبل المباراة النهائية، وجلست في الخلف ماداً رقبتي وسطهما، لأنني متيقن أنني سأكون مستمعاً طوال الطريق بحضور نجم، وذلك السائق من إحدى الجمهوريات الأفريقية التي تشهد انقلابات عسكرية كل فترة، لغم جهاز الـ”جي. بي. أس” عنوان دارة نجم في ضاحية باريس لننزل الحقائب ثم ننطلق إلى المستشفى ليلقى بشارة ابنته الجديدة أميرة. بدأ نجم بشعوذاته ونجمياته المعتادة، والتي تبدأ بسؤاله الاعتيادي بالإنجليزية المسرحية من أي بلد، فيرد السائق بسؤاله السؤال نفسه ليجيب نجم مفصلاً:”الحقيقة أنا من إسكتلندا، والوالدة من السويد” فيصدق السائق ونجم ذاهب في غيّه، ثم بسرعة يتحول إلى اختراع لغة جديدة هي مزيج من كل شيء، لكنها دون معنى، على أساس أنه يتحدث الأفريقية أو السواحلية، والسائق يهز رأسه، ففي أفريقيا 600 لغة، ولابد أنها واحدة منها، وحين يبدأ على السائق شيئاً من الانبهار، يفاجئه نجم بصوت أوبرالي لا متناه. بعد تلك المسرحية يخضع السائق لطلبات نجم، ويظلان يتحدثان بحميمية، وكأنهما أصدقاء باعدت بينهما المسافات والسنوات، وهكذا مضت نصف الطريق وقِرَبّ بطني نجم والسائق تختضان كل حين، وفجأة أنهمر مطر، وزاد الشارع ازدحاماً، وأوقفتنا إشارة حمراء تردد السائق في تجاوزها لنسمع من خلفنا صهيل عجلات سيارة، ثم صوت اصطدام من الخلف. فتحت الإشارة عينها الخضراء، فنزل السائق الأفريقي بعد ما أفرغ ما في بطنه من سباب ولعنات، فسمع أبواق السيارة التي تريد أن تنطلق، فأشار للسائق الذي صدمه أن يقف جانباً في الشارع القادم، فوافق بهزة من رأسه حتى تجاوزه، بدأ سائق السيارة الصغيرة شاباً من المغرب العربي، والسيجارة التي في فمه لون دخانها أزرق، وسريعة الاشتعال، تمهل سائقنا لكي يقف، لكن الآخر ظل يناظر له، ويعطي إشارة من غمازات سيارته ليتوقف على رصيف الجهة اليمنى، ثم خاتله، و”رمح القاع”، حينها زمجر سائقنا تلك الزمجرة الأفريقية.. وغداً نكمل ناصر الظاهري | amood8@yahoo.com