آخر موشح مشطر لابن شرف يعكس بصدق المزاج الرائق الذي عرف كيف يستقطر فتنة الحياة في جمال الطبيعة، يقول بكلمات وجيزة دالة: شمس قارنت بدرا/ راح ونديم أدر أكؤس الخمر/ عنبرية النشر إذ الروض ذو بشر/ وقد درع النهرا/ هبوب النسيم يجمع الشاعر بين التقاليد المشرقية والمغربية في وصف المحبوبين؛ فالنديم مثل البدر كما يقول أهل المشرق، والراح مثل الشمس وهي المثل الأعلى في السمو والجمال لدى أهل الشمال، حيث لا تسطع عليهم حارقة كاوية أبدا، وهنا يتوزع الحسن بين الراح والنديم وهو يدير الأكؤس، فيفوح منها أريج العنبر وشذى العطر، حينئذ تكتسي الرياض بالبهجة ويهب النسيم الرقيق على النهر فتتكسر مياهه كأنها قد لبست دروعا واقية، يمتزج في هذا المشهد جمال الطبيعة بالإنسان: وسلّت على الأفق/ يد الغرب والشرق/ سيوفا من البرق وقد أضحك الزهرا/ بكاء الغيوم هذه الطبيعة الشمالية تنصب في الفضاء حروبا سلمية، حيث تبدو البروق اللامعة وقد سلتها يد الشرق والغرب معا كأنها سيوف مشرعة في معارك مهرجانية مفعمة بالمفارقة، فالغيوم تجهش بالبكاء فلا يملك الزهر إلا أن تهزه العاطفة: ألا إن لي مولى/ تحكم فاستولى/ أما إنه لولا دمع يفضح السرا/ لكنت كتومْ فإذا كان الشجى يبعث الشجى فإن بكاء الغيوم قد استدعى تذكر الشاعر لمحبوبه الذي استولى على لبه، ولولا أن دمعه يفضح سر أشواقه لاحتفظ بلواعجه وكتم مشاعره. من هنا فإن المشهد الطبيعي ليس سوى تمثيل للحالة الوجدانية، الأمر الذي يجعل ألسنة الطبيعة مقتربة بتطبيع الإنسان لقوانينها حتى يصبح مظهرا آخر لها، مما يؤدى إلى وحدة كلية للوجود يشير إليها الشعر تلميحا لتتولى الفلسفة التصريح بها: أنى لي كتمان/ ودمعي طوفان/ شبت فيه النيران فمن أبصر الجمر/ في لج يعومْ تذهب الصورة الشعرية هنا وراء المبالغة الفلسفية، فالذي يعاني لواعج العشق لا تستطيع له كتمانا ولا يطيق عن حبيبه صبرا، لأن دموعه تستحيل إلى طوفان قد شبت فيه النيران، ومن الذي أبصر قبل ذلك جمرا يعوم في لجة البحر، لكن عواطف البشر وأحوال الطبيعة تتسع لهذه المفارقات الضاجة، الضاحكة الباكية معا. إذ لامني فيه/ من رأى تجنيه/ شدوت أغنية لعل له عذرا/ وأنت تلوم هذه هي الخرجة الطريفة المليحة التي بني عليها الموشح، وهي كما لايغيب عنا شطر من بيت قديم متداول، لكن القطعة كلها قد سيقت لتكون هذه الجملة نشيد الختام المحكم ونتيجة الحكاية السابقة، فالتماس العذر للأحباب دليل التسامح وعمق الود وصدق العشق، كما أن التماس العذر للشعراء في أخيلتهم ومزاجهم دليل على سماحة الروح وجمال الإحساس بالفن.