بمجرد أن يستقي الفنان التشكيلي مادته من الطبيعة، تنفصل هذه المادة عن الطبيعة، وتصطبغ بذاكرة الفنان المنسية، الذاكرة المنسية تمثل أحداثاً ووقائع لامست خلايا الدماغ لدى الفنان، وتم تخزين هذه الأحداث والوقائع داخل هذه الخلايا، وعندما انفرد الفنان مع المادة المستخدمة من الطبيعة، أخرج المادة من كونها تصطبغ بصفة الطبيعة، وأدخلها ضمن الذاكرة المنسية، فاصطبغت بصفة الفن، عبر المادة المستخدمة، رسم الفنان فكرة المنتج الفني، فتجد خطوطا عريضة تلتقي مع خطوط رفيعة، تذكر الفنان بالذاكرة المنسية، قد يخط الفنان عبر المنتج الفني خطا رأسيا أو أفقيا، هذا الخط الرأسي أو الأفقي يعيد الفنان إلى حالة الثبات والحسم والصلابة، لأنه يطيع قانون الجاذبية، فليس هناك ميلان أو انكسار، أو حتى إعوجاج يهدد فكر الفنان، لكن الخط المائل يعود بالفنان إلى حالة السقوط وعدم الثبات. يذكر الدكتور نبيل راغب في سلسلة فنون الرسم والتصوير، لغة الخطوط الناشئة عن الذاكرة المنسية، والتي على شكل أقواس ومنحنيات أن “الأقواس أو المنحنيات هي أكثر إثارة للاهتمام والتأمل من الخطوط المستقيمة، نتيجة لتفوقها عليها في التنوع والتحول. فالخط المستقيم يشق طريقه الواحد المتصلب من بدايته إلى نهايته، فمتى وقع بصر المشاهد على بدايته أدرك في الحال نهايته أو العكس، في حين أن القوس أو المنحنى يشوق المشاهد لتتبع مساره الذي لا يستطيع أن يتوقعه مسبقا، وكأنه في مواجهة لغز يحب أن يعرف حلا معقولا له”. جميع تلك الخطوط يتعامل معها الفنان عبر المادة المستخدمة من الطبيعة، فتجد المادة تتشكل على هيئة خط رأسي ومن ثم ينحني إما للأعلى أو الأسفل، الفنان يتذكر عبر المادة، والمشاهد كذلك يتذكر، ولكن كل منهما يتذكر عبر الذاكرة المنسية الخاصة به، يتحقق الفن عندما يعيش كل من الفنان اللحظات المنسية، يعيشها كأنها تتكرر مرة أخرى، حتى الزمان والمكان يتطابقان مع الذاكرة لحظة اللقاء الفني، بين المنتج والفنان والمشاهد. يحاول الفنان عبر الذاكرة المنسية تحقيق الرغبة في النسيان وليس التذكر، فهو عبر الفن يعود للوراء لكي تنشط الخلايا المخزنة، فيرمي بها للخارج، ويستبدلها بلحظة المتعة الفنية مع المادة المستخدمة، وبدهشة المشاهد، يكرر الفنان عملية التذكر، وفي كل مرة يرمي بكمية معينة من الذاكرة نحو الخارج، يستقبلها المشاهد ويضيف إليها ذاكرته المنسية ويعيد عملية الرمي، حتى تتكون في صالة العرض أكوام من الخلايا المنزوعة من دماغ الفنان والمشاهد. إذا لم يقوم الفنان بعملية البتر، فإن الذاكرة المنسية تنمو وسط خلايا الدماغ، وتنتشر بسرعة فائقة، ويبدأ الورم الدماغي بالبروز، وتبدأ سلسلة من العلاجات النفسية لبتر هذا الورم، قد تنجح تلك الجرع النفسية، وقد يجر الفنان دماغة نحو الانتحار والاستسلام، فالفن علاج لهذه الذاكرة المنسية، لا يستطيع الفنان نكران هذه الحقيقة، بل يشرك المشاهد في عملية العلاج عبر الفن. هدى سعيد سيف | science_97@yahoo.com