يجلس عند ناصية، يدخن سيجارته ويطلق نشيده الكوني، معانقاً روح السماوات والأرض، مجندلاً بوجدان، أرهف من جناح فراشة، ومشاعر مزخرفة بألوان العفوية، وابتسامة شفيفة تغسل محياه بلطف، وتبدو انفراجة شفتيه الذابلتين، هي المسافة ما بين الدرهم والمليون، تطل من عينيه نجمتان سارحتان، شاردتان، تنشدان لحن الخلود متلألئتين، بلمع الدمع وكأنه قطرات الندى على خد وردة أسطورية، يحدق في الوجود وكأنه يقرأ الإلياذة القديمة، كأنه يتهجى حروفاً هاربة من جملة لم تكمل عبارتها، كأنه يبلل رموشه بملح الاشتياقات البعيدة، كأنه يتمشى على خاصرة الزمن المرصوف بسجادة واهنة مذعنة للقدم، تخبئ في أحشائها أسراراً وأخباراً وأطواراً، كأنه قادم من سبات قديم، يصحو على الدهشة المتفشية، توقظ فيه الحملقة والبحلقة، وفي داخله ينهض كائن أقدم من الدهر، يحاول أن يروض أو يقوض أو يهيض، لكنه لا يستطيع كونه فقط لا يملك غير الناصية، وعند الناصية فراغات أوسع من حيز الكون، أوسع من دائرة القلب، أوسع من محيط الروح.. يجلس عند الناصية، وتراه يبتسم، يتمتم، يهمهم، يتكلم، يحلم، يستسلم للإغفاءة، يروغ عند وجهه حشرجات كائنات محرجة، يروغ صوراً ومشاهد، ويستقطب أخرى، يفكر فقط في الوجبة التالية.. ثم يغني للحمامة التي تلتقط بذور الحياة، يفكر أن يطير بلا جناحين ليصل إلى قمة شاهقة، أرهقه النظر إلى شخوصها.. فلا يطير لكنه يظل يبتسم، وينغم من الابتسامة قوة الهامة والشهامة، وعلو الكعب وسمو قامة. وآخر يجلس كمذنب وقع من السماوات العلا، يدخن بشراهة، ينفخ وتضيق حدقتا عينيه، كلما غشي الدخان العينين يضيق صدره، وتبدو الابتسامة موجة عارمة، صارمة جازمة حازمة، متبرمة، تتعثر بين أخاديد المحيا المغضن، المكفن بأحزان وأدران وأوزان، وأحمال وأزمان وأثقال تفر وتنفر منها الجبال. تبدو النظرة منهكة، هالكة، مستهلكة، منهمكة في قراءة معقدة، مصفدة، مجهدة، معربدة في ثنايا وطوايا وسجايا خربشت على صفحاتها أزمنة عابثة، وبات هو كمن ينعي ميتاً، والميت فؤاد مضته نظرات أبعد من محيط دائرة الروح، أوسخ من خطوات الإنسان، أسرع من طلقة السهم.. بات هو كمن يتسلق درجات الفضاء، كمن يسبح على كثيب في الصحراء، كمن يستحم في رمل متشظ، كمن يغسل وجهه برماد النهايات القصوى. عندما يقف الاثنان أمام المرآة.. أحدهما يرى وجهه والآخر يبحث عنه في عتمة الذات المبعثرة في ظلمات التيه، ولهاث القلب في درب طمست معالمه، والرؤية غشتها غاشية، أحلام لا نهاية لرصيفها. علي أبو الريش | marafea@emi.ae