العمل الأخير للشاعر جواد الحطاب “بروفايل للريح.. رسم جانبي للمطر: تنويعات على نصب الحرية” يطمح عبر ما يصفه الشاعر بالمغامرة أن يقدم نصوصا شعرية موازية للنصوص البصرية التي تمثلها منحوتات الفنان جواد سليم في عمله الجداري الشهير “نصب الحرية” الشاخص بقلب مدينة بغداد مكانا ومكانة في الآن نفسه. التناص الذي يقدمه جواد الحطاب يعيد موضوع الصلة بين (الشعري) و(التشكيلي)، من زاوية القصيدة ووجهة نظر الشاعر هذه المرة، وليس بالعكس من ذلك، كما في التجارب الحروفية التي تقدم نصوصا بصرية مرسومة لأعمال شعرية أو كِسَرا من أبيات وحكم وحروف. البروفايل والرسم والتنويعات التي يصرح بها عنوان عمل الحطاب تعد القارئ بمهمة شعرية تقترب من البصري، ولكن بالكلمات التي تغتني بالصور لتوازي مرجعها البصري الممثَّل بمنحوتات نصب الحرية التي تشكل بدورها جملة مركبة من اليمين إلى اليسار، وسردا لحكاية الحرية التي أخذ النصب اسمها، مقترنا بقيام الجمهورية في العراق. عدة أسباب أعطت النصب أهميته منها: ارتباطه بالذاكرة الوطنية للعراقيين، واعتماده على التاريخ الحضاري لوادي الرافدين، وموقع النصب المعتلي فضاء واسعا في أهم ساحات بغداد، إضافة إلى البراعة الفنية والأسلوب المميز للفنان جود سليم. لكن الشاعر يدرك على مستوى التوصيل أن نسخة الشعر لا تتفوق على نسخة البصر. المرجع سيظل قوي الدلالة؛ فلا سبيل لمباراته إذن. هكذا اتخذ الحطاب وسيلة بديلة اتسمت بالفطنة، فأحال المنحوتات المصطفة على جدار النصب إلى عناوين داخلية لعمله، لكنه لم يلتزم بدلالاتها المباشرة لأنه لا يقدم عملا توضيحيا مصاحبا للمنحوتات. إنه يشتغل على ما تثيره من (تداعيات) ويسافر حرا بين واقع عراقي قائم بعنفه ودمويته، وآخر ماض قريب أو بعيد، ويوثق بهوامش للاستزادة ولاستحضار السياق. ويوشح قصائده بحسّ السخرية التي عرف بها في كتاباته. لكن الشرارة التذكرية تبدأ دوما من إيحاء المنحوتة. تحت الصرخة يكتب جواد الحطاب: “منْ يزن الصرخةَ بميزان الألم؟” لكنه يأخذنا بعد ذلك إلى أمهات الضحايا ليقرر: “حبة دمع واحدة/ من عين أمّ../ كافيىة لتعقيم الملائكة”. وفي البحث عن قرين برابط الاسم ربما يكتب “أنّى يكون لي قرين ولم يمسسْني نحّات؟”، وعن أبواب بغداد القديمة المندثرة يؤاخي الماضي بالحاضر: فإذا كانت لبغداد أبواب عدّة فإن لها الآن “باب واحد هو باب الآآآآآه”، وتحت صورة الثور في النصب يكتب: “لا أجراس في عنقه/ هو الثور السماوي/ يرى ما لا تراه المدينة:/ تحت الضروع/ يهرّب الرعاة/ أصابع الديناميت”، مثل هذه الانتقالة الحرة من ثور ملحمة جلجامش حتى ديناميت التدمير المعاصر، هي التي ميّزت عمل جواد الحطاب التناصي هذا. لقد أصبحت التماثيل إشارة ينطوي صمتها على فصاحة تتعقبها القصائد. لذا يختم بالرهان عليها “لا تقولوا وداعا للتماثيل/ ولا تندبوا الزقورات/ ثلاثا ستنبعث بغداد/ ستنبعث ثلاثا”.