في عام 2000 كنت في الإسكندرية، المدينة التي تعاقبت عليها حضارات لا حصر لها، والتي تبدو آثارها واضحة في طرز المدينة المعمارية وملامح سكانها، وحتى في أطعمتهم وسلوكياتهم، كنت يومها أحضر مؤتمراً حول الإصلاح السياسي في مصر، كانت تنظمه مكتبة الإسكندرية العريقة ذات التاريخ العظيم، ولقد صحبنا في تلك الأيام الجميلة أحد وزراء الحكومة المصرية، وكان قبل ذلك أستاذاً للعلوم السياسية في الجامعة وكاتباً صحفياً، وأتذكر من جملة حوارات عدة دارت مع الوزير، إشاراته المستمرة إلى تجمعات الناس وازدحامهم على الشواطئ والشوارع، فكان يصفهم بالغوغاء ليس من قبيل الشتيمة، ولكن من قبيل التوصيف السياسي لتجمعات من هذا النوع! تأتي كلمة الغوغاء في المعاجم مرادفاً للفوضى والصياح، وتطلق على الهمج والسفلة من الناس الذين يحدثون لغطا وفوضى وجلبة، كما وتطلق على أسراب الجراد حين يخف للطيران!! ولا أعلم أي هذه المعاني كانت تدور في ذهن الوزير وهو يصف جماهير الناس يومها، لكن الجماهير المتجمعة في كل مكان يومها كانت تمارس حقها الطبيعي في التمتع بمنظر البحر أو الاسترواح بنسماته العليلة، فقد كان المناخ معتدلاً بالفعل ، لكنني أحسب أن الوزير يومها ينطلق من رؤية سلطوية كانت شائعة في أغلب دولنا العربية التي تواجه اليوم ثورات شعوبها، رؤية قائمة على فوقية مقيتة تنظر للجماهير على أنها غوغاء لا أكثر، بينما أهل السلطة هم النخب الأكثر نبلاً وتمتعاً بكل المزايا!! اليوم تواجه الحكومات العربية مع موجة الاحتجاجات المتلاحقة على أي شيء في بلدان الثورات، إشكالات عديدة، سببها تلك النظرة الفوقية التي دامت عقوداً من الزمن وراكمت جبالاً من الفوارق الطبقية والاختلافات المادية في مستويات المعيشة والحياة والتعليم والاهتمامات والممتلكات والحقوق والمزايا، تلك النظرة السلطوية أو المتسلطة، عمقت مفهوم الغوغاء السلبي لدى جماهير عريضة يفترض أن تحمل صفة مواطنين - التي هي أكثر استحقاقاً واحتراماً - لو أن حكوماتهم عاملتهم باعتبارهم مواطنين لا غوغاء، وها هي النتيجة اليوم، فوضى وهمجية وردات فعل عاطفية وغير متعقلة لأقل الأسباب شأناً!. لقد كانت إشكالية أغلب النظم العربية السائدة هي علاقتها المأزومة على طول الخط مع شعوبها، فكانت تقدم لها صباح، مساء خطاباً مبتوراً وغير مقنع حول قضايا مصيرية يجب على تلك الشعوب أن تتنازل عن كل حقوقها لأجل تلك القضايا، وكان الشعار الأبرز لسنوات طويلة: لا صوت يعلو على صوت المعركة، وفي كل معركة لا يعلو فيها سوى صوت القنابل والطيران المعادي، كانت الأنظمة تمنى بالهزائم وضياع الأراضي تباعاً، ثم لا أحد يلتفت لحقوق الناس، فالأنظمة إما أن تستعد لهزيمة أو ترمم نفسها إثر هزيمة!. وفجأة .. انتبه الناس إلى أن المعركة الوحيدة التي عليهم أن يخوضوها، هي معركة حياتهم وحقوقهم ومستقبل أبنائهم، معركة تنميتهم وتعليمهم واقتصادهم، معركة ضد جهلهم وفقرهم والأمراض التي استوطنت أجسادهم وقراهم وعقول ساستهم، وهذا هو الذي خاضته دول أخرى صغيرة حديثة، لم ترفع شعارات للمعارك، ولكن رفعت مبادئ إنسانية صبت كلها لخير المواطن وتنميته والارتقاء بسبل عيشه، فحققت المعادلة التي عجزت عنها دول الارتكاز والثقل، والإمارات واحدة من البلدان التي رفعت شعار الإنسان أولاً، فنعمت بما تنعم به اليوم. عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com