استعصت على السعودي وعلى المصري، فلعل أمرها يؤول الآن إلى الجيبوتي. في العام 1999 خاضت مصر والسعودية معركة قيادة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو). لم يكن الخصم طرفا ثالثا، إذ إن تنافسهما يكفي. السعودية طرحت اسم الوزير والسفير الشاعر غازي القصيبي، ومصر رشحت الدكتور اسماعيل سراج الدين، أحد نواب رئيس البنك الدولي سابقا ومدير مكتبة الإسكندرية في حينه. تسابق الاثنان على أصوات الأعضاء، فذهبت في غالبيتها إلى المرشح الياباني كويتشيرو ماتشورا. في العام 2009، كاد يحصل أمر مشابه عندما رشحت مصر وزير ثقافتها المزمن (في حينه) فاروق حسني. أديرت حملة المرشح المصري بكل الخبرات البيروقراطية المكتسبة، ففازت برئاسة المنظمة الدولية البلغارية إيرينا بوكوفا. منذ أيام بدأت معركة رئاسة (اليونيسكو) بشكل مبكر، إذ من المقرر أن تجري في خريف العام المقبل. لكن الترشيحات انطلقت. الرئيسة البلغارية أعلنت إنها تريد أن تحظى بمدة ثانية، فيما رشحت جيبوتي سفيرها لدى فرنسا وممثلها الدائم في المنظمة الثقافية الدولية رشاد فارح للمنصب المرموق. ومن يطالع سيرة الرجل لا يعثر فيه على شائبة. فهو ديبلوماسي عريق. وإداري أثبت جدارته حيث تطلب الأمر. وفضلا عن ذلك، فإنه يتميز بلحية تشبه لحى الرسميين الطالعين حديثا من الميادين إلى الدواوين. وكذلك الأمر، فإن سجل بلده جيبوتي لا يحمل علامات استفهام أو تعجب. فلم يسمع يوما عن هذه الدولة العربية الأفريقية المسلمة، إنها خاضت مرة نزاع حدود مع جاراتها. ولا شجعت سياسة المحاور بين الأقطار العربية. ولا حرّضت معارضة على حكومة، ولا دعمت حكومة ضد أبناء شعبها. ولم تؤسس أحزابا قومية تخطط لقيادة الأمة من الخليج إلى المحيط. ولم تطلق فضائيات ملعلعة تتوهم إنها البديل الجذري عن الحكومات والشعوب والأحزاب والنقابات والرأي العام، طالما إن الجميع يعملون عندها برتبة شهود عيان. إن كل تلك الصفات في الرجل ودولته، تجعل منه مرشحا مثاليا لرئاسة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو)، باسم العرب والمسلمين والأفارقة. ولعل جهود المعنيين تجتمع لدعم معركته الصعبة. فبمجرد أن يكون ممثلا لهذا الثالوث، يعني إن تشكيلة من المطبات الطبيعية والصناعية سوف تنتصب في وجهه. فهذه المنظمة الدولية كانت إنجازا نخبويا للشمال، ولم تصل قيادتها إلى جنوبي إلا في اختراق وحيد حققه السنغالي مختار إمبو. وهذه المنظمة هي الأكثر إفلاسا في العالم، والجهة الأقل إغراء لتقديم المعونات، أو حتى الإيفاء بالتزامات الأعضاء. فهل سيستطيع جنوبي من جيبوتي تحقيق الاختراق الثاني على مستوى رئاسة المنظمة؟ وهل ستستطيع جيبوتي الدولة الفقيرة، أن تقنع الأغنياء برفد (اليونيسكو) بما تستحقه أو تحتاجه من مال للقيام بأعباء مهمتها؟ ربما لهذا السبب بالذات ينبغي أن يصل ممثل جيبوتي إلى رئاسة (اليونيسكو)، فمن غيره يستطيع إدراك ذلك التوازن الدقيق بين الإمكانيات المادية وقضايا التربية والثقافة والعلوم؟ ومن غيره يستطيع أن ينأى بمهمات (اليونيسكو) عن الأطماع، والتوظيف، والاستغلال السياسي؟ ومن غيره يستطيع أن يحقق الإجماع حول شخصه، خصوصا بين قومه، باعتبار إنه (ودولته) خارج الاصطفافات والمحاور؟ فلتكن معركة جيبوتي لرئاسة (اليونيسكو) حافزا للتفكير في اتجاهات أخرى كفيلة بإخراج أطر العمل العربي المشترك من استعصاءاتها الراهنة.. فهناك منظمة عربية شبيهة بـ(اليونيسكو)، وهناك مجالس في جامعة الدول العربية معطلة أو شبه معطلة، وهناك منظمات وهيئات قطاعية بين العرب يكاد يلفها النسيان.. كلها بحاجة إلى جيبوتي. adelk58@hotmail.com