حينما كانت موسكو عاصمة قارة يسمى الاتحاد السوفييتي، ومن خلال الزيارة الأولى لها في أواخر الثمانينيات، وكعادة متأصلة لدى السوفييت وقتها، أن تلتزم الوفود الرسمية بزيارة مقررة عليها لضريح مشعل الثورة البلشفية، وزعيمها التاريخي “فلاديمير ألييتش أوليانوف” لينين، المسجى على ظهره، والمسبل يديه، ببدلته السوداء وربطة عنقه الرسمية، وهو يحمل تلك الابتسامة الفاترة، خاصة بعد نجاته من الاغتيال بثلاث رصاصات على يد معادية لسياسته، والتي استقرت في الكتف والرئتين، ثم توالت الجلطات عليه حتى فقد النطق، هذه الزيارة الرسمية والمفروضة كانت تجد هوى لدى “المتمركسين”، حتى أن بعضهم المنافق يصر، ويصر على أن يسمع المرافقين الروس والذين أكثرهم في “كي. جي. بي”، وبالتأكيد ينتمون للحزب الشيوعي، وبالتالي سيوصلون المعلومة “الملغومة” للحزب “العالمي والقومي والقطري”، وقد يحظى بترقية أو يدفع به إلى الأمام سياسياً أو أقلها منحة دراسية لولده في جامعات موسكو أو لينينجراد أو جامعة “لوموبا”، سيصر صاحبنا “الأحمر” أنه يريد زيارة الضريح قبل أن يصل إلى فندقه؛ لأنه نذر عليه منذ أن خرج من قريته، من أجل إلقاء التحية وواجب السلام والتبجيل للمقام الراقد بكبرياء، يومها ولو كان مكان الضريح فارغاً من الزوار والحشود، ولكي يضفوا السوفييت تلك الأهمية والهيبة لزعيمهم، يدسون بين السياح جنوداً، وأعضاء من الحزب ومخبرين؛ لذا عليك أن تنتظر الساعات في طابور طويل منتظم لكي تحظى بتلك الدخلة إلى القبر البارد، والنظر للراقد بلحيته المصبوغة بلون الحناء، تلك الزيارة تحتاج إلى ثلاث ساعات، ولكن بالتأكيد ليست ضائعة، فالشخص والمكان جديران بالرؤية، ففي تلك الغرفة العميقة والواسعة تستشعر رائحة الموت الباردة، فالصمت مفروض، وغير مسموح إلا بمقدار التنفس من منخار واحد، حتى أنني أتذكر قد صادفت يومها واحداً إما من بلغاريا أو عدن، فقد ميزته من بعيد بأسنانه الذهبية في الفك العلوي، ما أن وصل بقرب القفص الزجاجي حتى أجهش بالبكاء والعويل، إما صدقاً أو كذباً، فأخرجه الحرس لكي لا يوقظ ميتهم من رقدته الأبدية، ولكي لا يكسر صمت الموت، ويومها من يذهب إلى موسكو ولا يزور الساحة الحمراء وضريح لينين، فكأنه لم يزرها، حتى أن “مساكين” من كل الجمهوريات السوفييتية تنظم لهم الحكومات زيارات موسمية يأتون لكي يلقوا السلام، ويظهروا الاحترام لهذا الزعيم التاريخي، وكل تماثيل عمالقة الأدب والفن والموسيقى والثقافة الروسية والذين بلغوا العالمية، لا تعني شيئاً أمام ذلك المقام المطهر، وكم من زعماء العالم أجبروا أن يزورا ذاك الضريح، فقد كان يكلف الدولة السوفييتية أموالاً طائلة في سبيل حفظه بحالته “الصحية” ونعومة بشرته، وتلك أسراراً لم يكشف عنها؛ لأنها تعد من أسرار الأمن القومي الاستراتيجية، وتخص المواد الكيميائية التي استخدمت في تحنيط جثة لينين، والمحافظة عليها منذ وفاته عام 1924 .. ونكمل غداً. ناصر الظاهري | amood8@yahoo.com