ذهبت منذ سنة ونصف. غابت سنة ونصف. وحينما تحررت من الغياب، رجعت مرتين دفعة واحدة. زميلتنا روعة يونس، المجلجلة في حضورها، ساقتها جلجلة وطنها إلى حيث تفقد الأشياء معانيها: الصخب والصمت، الحياة والموت، الماء والدم.. يتقزم الإنسان إلى هيولته الأولى، فيغيب عن السمع والبصر وعن فعل الحضور. لكن روعة، كانت في عزلتها تلك، تحضّر أسباب عودتها، فيجيء منها مرة واحدة، كتابان. أولهما “أعلى من سماء” مجموعة قصصية. وثانيهما “كما لا أحد” مجموعة شعرية. تأخذ الكتابين كأنهما لقية. تريد أن تتلمس ذلك الجنون المضطرم في وطن الياسمين. أن تعرف كيف يعبق أو يعبث الدم في حنايا الشام. إذ لم تعد تثق بالفضائيات، حكومية ومعارضة. كلها سواء. وطّنت النفس على أن تكون نصوص روعة، سيرة الناس الذين لم يقولوا كلمتهم بعد. أولئك الذين التهمتهم النار فيما ألسنتها تحرق بلدهم مدينة مدينة، وقرية قرية. في مجموعتها القصصية التي اختارت أن تختم نصوصها بالعناوين، تجد نفسك وجها لوجه مع تلك المدينة الغالية، التي مثّلت انتقالك الأول في المكان: حلب. نقف مع الكاتبة أمام تمثال حلب، الشاهق، الحاضن، المرحب.. “الشخص” كما يسميه أهل المدينة، و”المرمي الوسيم”، بحسب مغازلة العشّاق والشعراء والسيّاح له.. يعبر العابرون بالتمثال، يلقون نظرة أو يستنكفون.. وهو باق حيث هو، مشرق، مشرف، حاني.. لكن لحظة واحدة سوف تقلب “حياة” التمثال وناسه، عندما تصطدم سيارة بقاعدته ويموت أفراد الأسرة الصغيرة بداخلها.. منذ تلك اللحظة بات التمثال شاهدا حجريا ليس إلا.. تلتقط في قصص المجموعة ملامح الناس الخائبين. تبحث عنهم فلا تجد غير نثاراتهم المتطايرة، أو سيرهم الذاتية التي تدل عليهم وعلى غيرهم في آن، كمثل ذلك الأسير المحرر من معتقلات العدو، فيرسل له زميله الباقي في الأسر يخبره عما جرى للرفاق ويحثه على الصمود.. وعندما تصل الرسالة تسطع الحقيقة: الأسير المحرر استشهد في أقبية المخابرات. تعثر في المجموعة على مشهد طازج، تكتبه روعة يونس كأنه برقية. لا يحتاج إلى مزيد من السرد أو الثرثرة: “تمسك يد صغيرها بيمينها، وإكليل الزهور في يسراها. يودِعان الشمس قبر والده الشهيد. سنوات، تمارس وابنها تقليدهما المقدس. اليوم، ذهبت وحيدة في يديها إكليلان من الزهور”. مشهد مكتف بذاته، لأنه كل المشهد السوري اليوم. في قصائد المجموعة الشعرية “كما لا أحد” تقف الذات لكي تنسحق. فهذا مصيرها المقدر والمكتوب. وتلك ذاتية مبجلة. الفردية هنا تقوم مقام الجمع. تبدو وكأنها تنوب عن الآخرين في انسحاقها. خلاصها الفردي لا يكون بالحياة، ولكن بالاستئثار بذلك الخراب العظيم: “...وفي كل الأوطان بلا وطن/ مأواها سرير الوحشة”. تلك الوحشة سوف تصبح بعد قليل نشيدا ـ أو نشيجا وطنيا ـ في قصيدة “نحن هنا ـ دمشق”، وفيها: “حبك وجع/ لكنه يطلق ألف الأمل/ ويغلق ياء اليأس/ فاتلي يا دمشق بعض ما تيسر من سورة جمالك (...) مئذنة القلب تكبّر: دمشق أو لا بلد”. هذا النشيج يصبح وجعا لا يحتمل في “شرايين البلد”، حيث يندس الموت مع النائمين لكي يفاجئهم في الصباح: “لم يعد الموت خجلا/ أماط لثامه علنا/ والدهشة التي اعتمرت صعود الروح تسأل:/ أينا الغريب وأينا القريب؟/ أينا القاتل وأينا الشهيد؟”. روعة يونس ذهبت لكي تختبر الجلجلة، فساقتنا على دروبها المعبدة بالشوك.. adelk58@hotmail.com