سألت نفسي عن تاريخ علاقتي بالأدب. وكانت المفاجأة أنني بدأت بالقص وليس بالشعر كما يتوهم أناس كثيرون وقراء عديدون. وعندما أخذت في تذكر أول الكتب التي اشتريتها من مصروفي المتواضع أيام أن كنت في مدينة المحلة الكبرى، اكتشفت أن أول كتاب اشتريته كان كتاب قصص الأنبياء للثعالبي، أو المنسوب للثعالبي. وقد اشتريت الكتاب من مكتبة قديمة، متخصصة في بيع الكتب الشعبية، بناء على نصيحة شيخ جامع ابن عطاء الله القريب من مكان تجارة أبي في مدينة المحلة. وقد أتيت على الكتاب في أيام قليلة. وذهبت إلى صاحب المكتبة القديمة مرة أخرى فرأيت كتاب ألف ليلة وليلة” بأجزائه الأربعة، فهممت بشرائه ولكن ما كان معي من قروش لا يكفي، فقد كان ثمنه عشرة قروش. وكان لابد من الانتظار والإدخار حتى أكمل القروش وظللت أتحايل على أبي وأمي، وآخذ مصروفي مرتين، مرة من أمي ومرة من أبي، دون أن يعلما إلى أن اكتمل المبلغ، وذهبت إلى بائع الكتب فاشتريته، وحملته إلى المنزل كما لو كنت أحمل كنزا، وعندما رآني أبي أسير فرحا، سألني عن الكتاب وأعطيته له ليراه، وحمدت الله لأنه أعاده لي، وبسمة فرح تعلو وجهي، فلم يكن يحجر على أولاده في قراءة ما يريدون، فكل كتاب مطبوع مفيد في نظره، ولكنه على غير توقع مني سألني عن ثمنه، فاضطررت إلى إخباره، فسألني كيف حصلت على المبلغ، فحكيت له بعد أن أخذت منه الأمان. وفاجأني بضحكة صافية، أمسك بعدها بأذني بين إصبعيه، قائلا: لا تعد إلى هذه الحيل، واطلب مني ما تريد صراحة، ولن أبخل عليك ما ظل الأمر متعلقا بشراء كتب مفيدة، ولن أخبر أمك بتحايلك حتى لا تتعرض لإحدى علقاتها الساخنة، ولذت بحضن أبي فرحا بهذا الأب الذي لم يكن على استعداد لعقابي على أي هفوة مثل أمي التي لم تكن أقل منه حبا لي، ولكنها كانت أكثر صرامة وأميل إلى العقاب المباشر على أي هفوة. المهم أنني وضعت الأجزاء الأربعة لألف ليلة بجوار سريري،وبدأت في القراءة. ولحسن الحظ،كنا في العطلة الصيفية،فلم أترك الأجزاء الأربعة إلا بعد أتيت على كل صفحات الأجزاء كلها. بعد ذلك،عرفت طريقي إلى مكتبة البلدية التي تعودت الذهاب إليهايوميا في بقية أيام العطلة. كان الكتاب الأول الذي حاولت قراءته فيها هو ترجمة الإلياذة للبسـتاني،لكنه صدني عنه بشعره الصعب،فقد ترجم البستاني الإلياذة بشعريشبه الشعر الجاهلي فلم أحبه، وتجولت بعد ذلك بين خزائن الكتب الظاهرة وراء زجاج الأبواب. واكتشفت ترجمة عربية لرواية هيمنجواي “ثلوج كلمنجارو” فالتهمتها، وعرفت بفضلها طريق القصة والروايات، وتكرر ذهابي إلى مكتبة البلدية إلى أن عثرت على “الأيام” لطه حسين. وهو الكتاب الذي تغيرت حياتي كلها بسببه.