ودعتني الفتاة وأمها بالدموع، واعتذرت لهما، فمهما عز الفراق فلا بد من الرحيل، لأن الوقت قد حان لاستئناف المسير، شكرتهما على تحمل حماقاتي وعلى ضيافتي لبضعة أيام على الرغم من ضعف الحال وقلة الحيلة في ذلك الكوخ المتهالك القابع في تلك المرتفعات على أطراف (تشانج ماي) تلك المدينة الوادعة الرائعة، عبرت لهما عن شكري ولم يكن لدي شيء أمنحه لهما، تعبيراً عن امتناني، وانطلقت أكمل طريقي نحو الغرب، إلى أن وصلت إلى الحدود مع ماينمار أو كما كانت تسمى بورما سابقاً، هناك توقفت كثيراً بانتظار أن يسمح لي بالعبور، في الواقع لقد استغرب الشرطي المكلف نقطة الحدود من وجودي في هذه الأنحاء، قلب جواز سفري كثيراً. وفي النهاية أخذني إلى رئيسه، وشعرت أنني أخضع لعملية تحقيق أمني من كثرة الأسئلة التي طرحت علي، وعندما اقتنع مسؤول المركز الحدودي بأنني مجرد عابر سبيل رحال، أخلى سبيلي على ألا أعبر الحدود إلى ماينمار لأسباب تتعلق بسلامتي الشخصية، فهو يرى أن دخول تلك المناطق يشكل خطراً على واحد مثلي في ظل وجود نوع من الفوضى، كما وصفها في تلك المناطق، وقد لا يسمح لي بالعبور أصلاً، ولو دخلت ربما يقبض علي بتهمة التجسس أو أن أقع بيد بعض الميليشيات أو العصابات المسلحة وأحتجز أسيراً أو رهيناً برسم فدية، وعلى الرغم مما قد يمثله ذلك من إغراء لخوض مغامرة مشوقة، غير أن ذلك آخر ما ينقصني الآن، فالتزمت بالنصيحة، وغيرت الطريق جنوباً عبر قرى وبلدات، إلى أن تمكنت من الوصول إلى محطة قطار في وسط الغابات، تكاد تكون مهجورة، قيل لي إن هناك رحلة يومية وحيدة في صباح اليوم التالي إلى العاصمة بانكوك تمر عبر هذه المحطة، فانتظرت في العراء على رصيف المحطة إلى اليوم التالي. في الصباح الباكر، توافد على هذه المحطة المهجورة مئات من القرويين من المهاجرين إلى المدينة أو الباحثين عن عمل أو فرص لحياة أفضل، بعيداً عن هذه الأنحاء البعيدة النائية، لم أكن أختلف كثيراً عن هؤلاء القرويين البسطاء، وشعرت بأن الجميع يتجهون صوب المدينة وأنني الوحيد الذي يهرب منها، لكنني على الرغم من ذلك يجب أن أعود إليها مهما ابتعدت. المهم أنني تدبرت أمري إلى العاصمة بانكوك، حيث لن أطيل المكوث، فلم تعد تلك المدينة قادرة على منحي مزيداً من الدهشة، فأكملت سفري باتجاه الجنوب لأخرج من هذه البلاد، وركبت القطار الدولي ليعبر بي مساحات شاسعة من الغابات والمناطق النائية المهجورة. rahaluae@gmail.com