نعود إلى الموشحات الخالصة للفن والجمال لنتملى معالمها المائزة وشعريتها الفاتنة. فنقف عند أبي عبد الله ابن الوزير أبي الفضل بن شرف، حيث تذكر المصادر أن أباه الشهير توفي عام 534 هـ بينما تغفل تواريخه الشخصية، مشيرة فحسب إلى أنه كان في فترة الموحدين أي في القرن السادس الهجري. ويقول عنه ابن الخطيب في التوشيح أنه “حبر متفلسف، مهتد في طريق البديع غير متعسف، وقد فضل على أبيه طبعا، قصد بشعره المتقدمين من الملوك فرفع راية الشعر وعلمه، وله في الطب باع، وفي التهدي إلى دقائقه كرم الطباع” ونختار له قطعة يقول فيها: “قضت خمور الثغور/ يسكر الصائمينا/ وصحو المفطرينا ألا يأبى شراب/ تطوف به كؤوس ثناياه الحباب/ لماه الخندريس وقد عبث الشباب/ بأعطاف تميس يعتقها الفتور/ فيشفق أن يكونا/ يقطعهن لينا” وتتجلى حلاوة المقطع في تورية خمر الثغور التي تشير إلى ما يتسرب للعواصم الأندلسية من خمور تتدفق من جيرانهم الإسبان في الثغور القريبة من ناحية، كما تشير في الآن ذاته إلى خمر ثغر المعشوق التي تسكر الصائم إذا ذاقها بعد لهفة وشوق، أما الذين اعتادوها وشبعوا منها وأفطروا عليها فسيظلون في صحو لا يجربون بعدها في التغني بهذا الشراب، حيث تطوف به كؤوس تبدو ثناياها البيضاء اللامعة فقاقيع حباب صغيرة وتظهر الفقاقيع عند مخالطة الخمر بالماء، بينما يعبث الشباب بأعطاف المحبوب المائسة فتعتق خمره بفتور حركاته وعينيه، حتى ليخشى الناظر أن يقضي عليها اللين والرقة، ونلاحظ على هذه الأوصاف قدرا من التداخل والعمق. “لقد نشط الخليع/ إلى تلك الهنات وقد بسط الربيع/ درانك من نبات وطرت الربوع/ فجاءت مذهبات رياض في غدير/ قد انفجرت عيونا/ تسر الناظرينا” ينتقل الشاعر من هذا المقطع أو الغصن إلى وصف الطبيعة الأندلسية بما تستحقه من نعوت مبتكرة، فالريح التي تميس وتتهادى والهواء الفاتر المنعش يطلق عليه “الخليع” النشط الذي يسبغ على الأشياء صفاته، أما الربيع فقد بسط درانكه، أي الطنافس النباتية الخضراء على السهول والجبال فتزينت الربوع بأكاليل الزهور، وتبدو الرياض والغدران كأنها قد انفجرت بالعيون التي تسر الناظرين، فالشاعر الأندلسي ينتشي بالطبيعة ويسكر بخمرها مثلما يسكره جمال المحبوب ولماه وريقه؛ إذ تلتقي في منظوره فتنة الخلائق والمخلوقات وجمال المشهد والمخبر معا، وهو إذ يعب بشعره الموقع المبتكر في الموشحات عن هذا الولع يجعل اللغة الشعرية بجملها المنتظمة وتوزيعاتها المنسقة، شفافة معبرة عن الجمال، فيضيف إلى رؤيته في الكون والحياة صنعته في اللغة وقدرته على تحميلها آيات الصور وبدائع التكوينات، وبوسعنا أن نلاحظ قدرا يسيرا من التفلسف الذي أشار إليه ابن الخطيب في هذه الموشحة التي يعمد صاحبها إلى المزج بين الإنسان والمكان ويرى أحدهما في الآخر.