هناك إبداعات باتت تتضاءل حضورا في المنظومة الحياتية، وأخرى باتت تشق إرهاصاتها ونجوميتها وتنمو بلا انماط تحدها ولا نظم تثقيفية تؤطرها.. كل الهيمنة على الحياة لها، وكل الدلالات تشير إليها، أما تلك التي كانت تشكل ثورة وريادة إبداعية أدبية، فقد باتت تخف وتتلاشى، فلم تعد الشعوب كما كانت تزحف خلف النظريات الفكرية، فاختفت الأسطورة الفكرية وباتت رموزها وهمية أو ربما لا تطلق على إبداعات فكرية وإنما جسدية، وكأن جحود الحياة مستمر يتعقب القيم والثوابت الإنسانية حتى لم تبق رائدة متربعة على عرشها. في هذا العصر ترى وسائل الاتصال تصنع النخب والنخبوية، وتشكل ما تشاء من الرياضيين وتصفهم بالعمالقة وبالأخص فئة قليلة من لاعبي كرة القدم، وتشكل فريقا آخر من الفنانين فتصفهم بالمشاهير العظام، وتنسب لبعض المنتخبات القوية رؤوسا شاهقة، وتبتكر لبعض الأندية قلاعا وحصونا لا تدك. بات التخصص هو الفعل الفاعل المنتسب تحت دائرة الإضاءة المحورية رغم ان الرياضة، وبالأخص كرة القدم، قد تجاوزت كل الدلالات وباتت من الإبداعات الجميلة التي تماشت مع الحياة وتبلورت من الشعبية الى العالمية، لكن لماذا افتقدت الحياة مثلا إيقاع الموسيقى؟ وتلاشت صورها إبداعية ورموزها؟ ايضا لماذا افتقدت الحياة بمجملها الإحساس بالأجناس الأدبية المبدعة، وقد تلاشى منها واندثر ذلك التذوق المرهف بالموسيقى؟ إن الشعر والرواية، وكذلك الموسيقى الراقية، لم تعد تتأصل بين القيم الحديثة، ولم يعد لها صوتها الإبداعي الذي من شأنه ان يثير قاعدة الشعوب ولا يجلسها.. إنها انكسارات الحياة الجديدة حين ترى على أرصفة الدول المتقدمة تباع أسطوانات موسيقية لمشاهير من أمثال بيتهوفن وفرانز شيفرز وهارب ادجوز وغيرهم من الفنانين العظام، ممن تعرض أعمالهم بسعر بخس، ولا تجد التفاتة من قبل المارة.. فإذا كان هذا حال تلك المقطوعات الموسيقية العظيمة، فلمن يبدع المبدع وقد فقد كفنان ريشته وبات بريق القلم محتوما أو قد تجاوزه الزمن؟ فالرياضة مهما بلغت لن تمنح الذاكرة ولو لمحة فنية من مقطوعة موسيقية عظيمة، ولن تعطي التاريخ لغة شعرية او صورة تعبر بها مسارات الحياة البعيدة.. انها لعبة آنية تظل تعشش بالذاكرة من دون قيمة فنية، ومع ذلك باتت تستقطب النجوم إلى محورها وترسو على ضفاف المجد بصورة وبأنماط مغايرة، وباتت الرياضة الاستهلاكية الحاضرة في أذهان المتلقين كرياضة عالمية مكلفة ومحاطة بالنجوم العالميين من أمثال رونالدو وميسي ونأت بنفسها او اختفت الرياضة الشعبية الجميلة. ومن هنا ينبع الفارق ما بين المكونين الرياضي والثقافي، فالأول يصنع الحياة الحديثة ويخطب ودها من خلال المخترعات والمخرجات الحديثة والمتجددة، بينما يظل مكون الثقافة على أنماطه القديمة من مؤتمرات وحوارات تتكي على سيل من انهيارات الأمجاد وتبدد إصول الحرفة. إن الحياة لا تخلق زيفا بقدر ما هي غرائبية تتكيف مع ما يسحر الوقت وما يعطيها كيانها ويسطر لها نجوميتها.