قراءة رواية الكاتب برهان شاوي “مشرحة بغداد” تستدعي العنف كثيمة تشتغل عليها الرواية العراقية الحديثة، تصويرا لحالة متواصلة من الأحداث المدمرة التي يشهدها وطن مبتلى، فيحتل العنف مكاناً في مركز السرد، وتسري عدواه إلى اللغة والبنية العامة للعمل. فيمكن وصف ما يجري في ظلام المكان المسمى مشرحة والمعروف بمبنى الطب العدلي ببغداد بأنه محاولة لخلق معادل صوري لعنف الخارج ودمويته. فلا يكتفي الكاتب مثلا بأن يجعل المشرحة المكان الوحيد لأفعال السرد وآدم حارس المسرحة شخصيتها الأساسية ومبعث وجهة النظر لما يجري في ظلامها كل ليلة حين تقوم الجثث لتتبادل الحوار وتقص عما جرى لها، بل يجلب تقنية مضافة لتعزيز العنف البصري، فيعطي لآدم هواية اقتناء الفديوهات المصورة، وبعد أن يتفقد أرجاء المشرحة، ويقفل أبوابها يقوم بالتفرج على مشاهد العنف المصورة لضحايا يعدمون بطريقة بشعة، فتقطع رؤوسهم بالسكاكين، فيتضاعف المشهد الدموي وتتأجج لغة السرد الموسومة بالعنف الموازي أو المعادل للحدث. تجسد الرواية ببراعة ودقة العنف المدمر والمسلط على بشر مسلوبي الإرادة؛ فيلجأ الكاتب لتحقيق ذلك إلى التغريب المناسب لعجائبية ما يحصل، وليوائم خط الإيهام المتصاعد في الرواية، حيث كل شيء لا يخضع لمنطق عقلي مجرد؛ لأنه في الأصل يصور أشياء لا يحكمها منطق؛ فتتطابق الرؤية السردية مع موضوعها، ويغدو منطقيا قيام الجثث وكلامها، وحيرة آدم من كونه حيا او ميتا كما يخبره طفل يعيش في المشرحة، وسنرصد ثلاث وسائل استثمرها الكاتب لإنجاز برنامج السرد: تصوير فضاء المشرحة حيث تستقر الجثث بعد كل انفجار لسيارة ملغومة أو عبوة ناسفة أو مفخخة، وإدمان آدم على مشاهدة الأفلام المصورة التي يعاود رؤيتها كل ليلة، والقصص التي تتقشر عن الحبكة الاساسية حين تقوم الجثث برواية ما جرى لها. لكن ذلك كله منبثق عن رؤية مشغّلة للعمل منذ بدايته حتى ختام الرواية بآخر جملة في الحوار بين آدم وجثة الصبي الذي يخبره بأن لا أحد يعرف حقيقة كونه ميتا أو حيا، وأن لا أحد سيأتي ليقول الحقيقة. الاشخاص في الرواية أو جثثهم بالأحرى يتسمّون جميعهم باسم آدم، ويختلفون في اللقب، ترميزا لكون الإنسان هو نفسه صانع آلامه وضحيتها، القاتل والقتيل متساويان تماما عبر الاسم، كما تتساوى المشرحة والشوارع المحيطة بها، حيث يفترض أن الأحياء يمشون فيها، لكن المرة الوحيدة التي يخرج الكاتب بالأحداث خارج المشرحة لا نرى إلا أشباحا تسير كما تسير الجثث ذاتها. النساء أيضا كلهن يحملن اسم حواء مع اختلاف اللقب كناية عن تساوي المصائر رغم اختلاف الهيئات والطبائع. وذلك يعبر عن رؤية الكاتب للبشر الذين استحال أغلبهم وحوشا يقتلون بعضهم او يتلونون بأهواء السياسة ودسائس السياسيين. لكن الرواية رغم سيطرة الجو الكابوسي عليها تنفتح في مناسبات كثيرة على التأمل في مغزى ما يحدث، فيفكر آدم بالبشر ويقارن مصائرهم بما يتحدث عنه الفلاسفة حول الإنسان الذي لا يراه أخيرا إلا جثة تنتظر المصير.