رأيت قبل يومين جاك شيراك وعجوزه في مطعم
”Murius et Janette” بباريس، كان مترجلاً بصعوبة من سيارته، ويمشي بتعب شيخوخة لن تدوم، وقامته المديدة وقد تقاصرت إلى النصف، وبدا حزامه لا يستقر على خصره بثبات، في حين بقيت عجوزه مقاومة وصلبة بعض الشيء، لم يكن معه إلا سائق سيارته الخاصة الرمادية والفرنسية الصنع، وقريب يساعده ويتعضد عليه، لا حراسة ولا ضجيج يمكن أن يزعج العجوزين السياسيين في تقاعدهما الاختياري، فطر قلبي الهرم والكبر، وما تفعل الشيخوخة بالقامات والمقامات، وقفت له احتراماً للتاريخ، وهكذا فعل بعض الحضور، فتبسم وجهه عن شيخوخة لم تأخذ منه إلا ما استطاعت، وظل محافظاً على تشكله الأولي، وينم عن وسامة لم تغادر رجولته، حيّت عيناه الحضور، وأنزوى بعجوزه في ركن قصيّ، والتي تبدو أكثر صرامة معه، ومع ما يخص صحته، ونوعية أكله وشربه، وربما هو ذاك اليوم، وفي هذا المطعم كان يشتهي أكلاً وشراباً بعينه، لقد أحزن مسائي بصدق، لأنني لا أحب أن أرى شخصاً في ضعفه الإنساني أو يأكل العمر من أيامه الأخيرة بقسوة، وتذكرته حينما صفع الجندي الإسرائيلي مرة، وغضب في وجهه، فانقبض القلب مني، وأكبرته، خاصة والعزاء أن رفيقة دربه ما زالت معه، وتعامله كما لو كان ما يزال رئيساً، وزوجاً شاباً، وتفكرت في حال العرب لو أن وزيراً سابقاً أو ضابطاً برتبة لواء متقاعد، لأنه ليس لدينا رئيس متقاعد، صحيح هناك رئيس هارب، ورئيس متمارض، ورئيس قضى نحبه، ورئيس ينتظر، لكن لو أنهما دخلا مطعم فسيفرضا على الجميع معاملتهما بأوزانهما السابقة أو لن يسمح لهما الناس أن يعيشا حياتهما العادية، وسيفرضون عليهما المعاملة التي تليق بهما، وبمقامهما، ولن يدفعا ثمن عشائهما إما بالسطوة السابقة أو بالمحبة المحفوظة عند الناس، وربما يأتي مالك المطعم، ويأمر نادليه أن يلبسوا أنظف ثيابهم، ويقدمون لهما طعاماً موصى به وزيادة، وضيافة من “صاحب المحل” فواكه وحلويات وقهوة سوداء وبيضاء، حتى يصابا بأرق وتململ طوال الليل وتلبك معوي، ولن تجد عبارة “المطعم محجوز”، لأن لدينا زبائن مهمين جداً، شيراك وعجوزه، وحدهما هذا المساء في المطعم الذي اختاراه، ودونما أي ضجيج، وسيخرج بطاقته الائتمانية أو بطاقة برناديت فما زالت هي كعادتها تدبر الأمور، وسيدفعان ثمن عشائهما المقرر ميزانيته من قبل، وستدفع هي البقشيش المتعارف عليه بين المواطنين الفرنسيين، ولن تزيد، كان عشاؤهما عادياً وهما من جربا الكثير من العشاءات، عشاءات مهمة، وأخرى لضرورة الدبلوماسية، وعشاءات مجاملة، وعشاءات من أجل الضغوط على صفقات للمصانع والشركات الفرنسية، وعشاءات مليئة بالثرثرة الرسمية التي بالتأكيد كانت غائبة عن عشاء هذا المساء في هذا المطعم الباريسي بجادة جورج الخامس.. شيراك لعلك واحد من بقايا الرجال المحترمين!


amood8@yahoo.com