لو كان المستهدف بالتكريم على قيد الحياة، لقاد هو بنفسه حملة منع هذا العمل المستفز. خرج جورج أورويل من مبنى هيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي) بإرادته وعلى قدميه، ولم يكن في ذهنه أبدا أن يعود إليه تمثالا من الحجر أو البرونز.. وفي كل الأحوال فإن إدارة الـ (بي. بي. سي) وفرت على طيف عدوها الفكري والطبقي عبء المشاغبة. قدمت عذرها لرفض إقامة التمثال، وهو أقبح من ذنب. قالت إن أورويل كان يساري الهوى، وهو ما يخالف نهجها. وهو بالضبط ما فعله مبتدع “الغرفة 101” (المستوحاة من كواليس الإذاعة الشهيرة)، عندما تخلى عن وظيفته فيها لأنه يضيّع وقته ويهدر المال العام على عمل بلا جدوى. لو دققت الجهة الرافضة لإقامة التمثال في مسار وإنتاج جورج أورويل، لعرفت أنه خارج الجداول الرسمية التي تتوزع أسماء الناس في خاناتها. جورج أورويل بالتأكيد ليس شعبويا، وبالمطلق لم يكن شيوعيا، وبالتحليل كان ناقدا جذريا لليسار بمفهومه الحزبي. هو استثناء إبداعي في عناده ضد الديكتاتورية الفردية والحزبية والطبقية. بهذا المعنى، كان أورويل مفكرا سياسيا قبل أن يكون مؤلفا روائيا. أظهر إرهاصات إنحيازاته الفكرية والسياسية، في عمله الأول الذي حمل عنوان “متشردا في لندن وباريس”، حيث تخلى عن اسمه الحقيقي (إريك آرثر بلير)، وعاش مع المنبوذين في شوارعهم القذرة. كتب عنهم، باسمهم وبالنيابة عنهم. بعد ذلك سيؤسس أورويل في روايته “مزرعة الحيوانات” لمشروعه الذي يلخصه بقوله: “في وقت الخداع العالمي يصبح قول الحقيقة عملا ثوريا”. اختار للحقيقة أن تتبدى في حيوانات السيّد جونز. قالتها خنازيره وخيوله وكلابه. تمردت وتحالفت فيما بينها، وثارت على مالكها المضطهد، وصدحت بشعاراتها الطاهرة من دنس المصلحة والغاية، وحينما توطد “حكمها” إرتكست إلى طبيعتها، فأكلت بعضها كما تفعل ثورات البشر بأبنائها. هذا التماهي بين الخيالي والواقعي في “مزرعة الحيوانات”، سوف يصبح أول تدشين لما يمكن تسميته الواقع الإفتراضي في رواية “1984” (المنشورة عام 1948). افترض أورويل أنه في العام المذكور، سوف تنشأ ثلاثة عوالم: أوشيانيا التي تضم الأميركيتين وأوستراليا والجزر البريطانية، وأوراسيا وتضم روسيا والباقي من أوروبا، وإيستاسيا وفيها الصين واليابان والهند، أما الشرق الأوسط وأفريقيا فهي ساحات نزاع بين القوى الثلاثة. يستمد المؤلف أحداث روايته مما يجري في أوشيانيا. نظام استبدادي آيديولوجي حزبي، مقسم إلى طبقات تقوم فوق بعضها البعض، وتدين بمجملها إلى “الأخ الأكبر”، الذي يمارس سلطته بوسائط وحشية من الأفراد والتكنولوجيا والأفكار، ويعمل على تدمير وسائل الإتصال بين البشر خصوصا اللغة، ويجعل نزعاتهم الطبيعية مثل العملية الجنسية عرضة للإذلال، بتجريدها من عمقها الإنساني وتحويلها إلى إجراء إداري. بعد أكثر من نصف قرن على رحيله، ستكون روايات جورج أورويل دليل إدانة لكل نزعة استبدادية أو طغيانية في العالم. وهي نزعات لا تختص بها أنظمة داخل كياناتها الوطنية، أو دول تتسيّد ما يسمى المجتمع الدولي، أو منظومات إقتصادية تستغل وتحتكر، أو منجزات علمية تتحكم بجينات الإنسان الفيزيولوجية والنفسية والفكرية.. إنها ذلك كله، تتعايش في “مزرعة حيوانات” عالمية، ويديرها “الأخ الأكبر”.. معها حق الـ (بي. بي. سي) أن ترفض عودة جورج أورويل إليها، فهو ليس تمثالا مصمتا، لأن بطله ونستون سيظل يذكّر الجميع، بأنه ما زال هناك مكان آمن، هو تلك السنتيمترات المعدودة في الجمجمة.... adelk58@hotmail.com