لماذا ارتبطت السياسة بالخطابة، والنبرة الحماسية في الصوت، والثرثرة بالأمنيات الموعودة؟ كان هذا ديدنها منذ الأغريق الذين عرفوا حكمتها، وأسسوا قوانينها، كما عرفوا الحرب حين لا تنفع السياسة في رد الحق أو فرض السيطرة، إن الحماسة هي قرينة سياسة الحرب، وسياسة تغطية الفساد، والعبث بتاريخ الأوطان، وحينما تنفصل الحماسة عن السياسة، فأعلم أن هناك استقراراً وتنمية وحياة مدنية، ومحاسبة في ظل الدستور والقانون، لذا نحت الخطابة السياسية بلغتها الحماسية في فترات تجييش المعسكرين الشرقي والغربي، وفترة عهد الرايخ النازي وخطاباته النارية في التمهيد للاجتياح الجغرافي والتاريخي، واليوم لم يبق من هتلر إلا تلك الخطابات الجماهيرية التي يحشد لها الشعب، ويظل ينتظر الساعات، وحين يهجم عليه التعب والملل، يظهر الفوهرر غاضباً، ويسيّر الناس بعقلية القطيع، الخطابات الستالينية، وزعماء الاتحاد السوفييتي وأمناء الحزب الشيوعي المتفجرة، ولو كانت في افتتاح مصنع للسماد أو تعاونية تختص ببيع البطاطا للشعب بأسعار مدعومة، خطابات كاسترو وتشي غيفارا الثائرة حتى بعد تحرير كوبا، لا بل إن مقابلات كاسترو التلفزيونية هي خطابات للأمة، ولكل الثائرين في العالم، أكثر منها مقابلة تلفزيونية، ولعل من أهم أسباب القطيعة بين الشعب الأميركي وكاسترو أنه كان يوجه خطاباته الحماسية والانفعالية دون أن يعرف المواطن الأميركي سبباً كافياً لتلك الحماسة الزائدة، وأي قضية هي تستحق بالفعل ذلك، الخطابات السياسية والحماسية للزعماء الصينيين، والتي كانت جلها موجهة للداخل، وللاتساع الديموغرافي الصيني، وللمحافظة على خصوصية الثورة الماوية، في أفريقيا، بما فيها السودان،
لا تزال الخطابات السياسية الحماسية القديمة تتجدد، وبالوتيرة والنبرة نفسهما، لأن المشاكل ما زالت هي، هي، إن لم تكن أكثر كارثية، فلم أشاهد الرئيس البشير مرة إلا خطيباً متحمساً، رافعاً عصا الحكم، دون أن يتطرق إلى رقم في معادلة اقتصادية تجيّر للشعب السوداني وأرضه الخصبة وثرواته المدفونة، وفي الدول العربية التي كانت تسير على الخطى اللينينية أو التراوتسكية، كانت خطاباتها ثورجية نارية حتى كانت شظاياها تلحق الأذى بالجيران، لكن هناك خطابات تاريخية لا يمكن أن تفصلها عن حماسة وقتها، وأهمية لحظتها، كخطابات تشرشل للشعب البريطاني، وخطاب ديجول بعد العودة لفرنسا أو قبلها في الإذاعة البريطانية الموجهة للشعب الفرنسي المقاوم، وبعض “خطابات الأمة” لرؤوساء أميركا التاريخيين، وإلا فهي خطابات موسمية لا ينتظر منها الكثير، وهناك خطابات عبدالناصر التي ما زال الكثير من الشعب العربي يحتفظ بها للزمن، هناك خطابات تدرّس لطلبة السياسة، وهناك خطباء سياسيون يدرّس فن إلقائهم، لكن هناك الكثير من الخطابات ذهبت لمزبلة التاريخ، لأنها كانت للاستهلاك، وحصيلة للفساد وبيع قضايا الأوطان، أكتب هذا متمنياً ألا نشبع خطابات حماسية لقضية كنا نعدها منتهية، وهي دول عدم الانحياز!

amood8@yahoo.com