دأب ثوريون عرب، يساريون وماركسيون من حقبة الستينيات، على تطريز خطبهم النارية بعبارة باتت أيقونة ذلك الجيل: “لقد دقينا المسمار الأول في نعش الإمبريالية”. كنت من أولئك الذين ينتظرون سماع خبر المسمار الثاني وما بعده. وللتعجيل بأمره رحنا نجمع المسامير، لكي تكون مددا لأولئك النجّارين وهم يصنعون ذلك النعش المنتظر. ظلت المسامير عاصية عند أولها، إلى أن أطلت وزيرة الخارجية الأميركية وهي تتحدث عن نظام عربي، فتقول إنه يدق المسمار الأخير في نعشه. هذا التصريح كشف حقائق أجيال من المسامير تاهت بين الأول والأخير، وأماطت اللثام عن مصائر المسماريين، فإما أنهم تأمركوا أو أن السيدة كلينتون تمركست. والمسماريون هؤلاء هم غير قبيلة المسامير الليبية، التي يرجع نسبها إلى المرابط سيدي مسمار، وتنتشر بطونها وأفخاذها في الجبل الأخضر ومدن المرج والبيضاء وغيرها. لا نعرف الكثير عن المسامير في تراثنا العربي، غير ذلك المسمار الشهير الذي تركه جحا ملكا له في حائط البيت الذي باعه، وجعل منه مدخلا لشبه إقامة للاطمئنان على المسمار العزيز. ما دفع الشاري إلى التنازل عن البيت والمسمار تخلصا من وطأة حضور جحا. والمسمار يحضر عزيزا في منامات العرب. إذ تذهب تفاسير الأحلام إلى أن مسمار الحلم هو أمير أو خليفة، وإن المسامير جمعا تدل على الجنود وعلى الدراهم. وإذا غرز الرجل مسمارا فهو سيتزوج. لكن المسمار حفر بداية الحضارات. فالكتابة المسمارية هي من أولى التدوينات المكتشفة، وترجع نصوصها المعروفة لسنة 3000 ق.م.، وهي سبقت ظهور الأبجدية بنحو 1500 سنة، وظلت سائدة حتى القرن الأول الميلادي عند السومريين والأكاديين جنوب وادي الرافدين. ويحفظ القصص المسيحي حكاية عن المسامير، مأخوذة من التراث القبطي على الأرجح. تقول الحكاية إن والدا أراد ثني ابنه ذي المزاج النزق واللسان السليط، عن إساءاته للناس، فأعطاه كيسا مليئا بالمسامير وطلب إليه أن يدق مسمارا في السور كلما مال إلى التهور. فراح الابن يدق المسامير واحدا تلو الآخر، إلى أن تقلصت حاجته إلى ذلك مع تحسّن مزاجه. ثم طلب منه والده أن ينزع مسمارا كلما رأى أنه سيطر على انحرافات سلوكه، ففعل إلى أن نزع كل المسامير. هنا دعاه والده إلى استخلاص الحكمة بالنظر إلى ثقوب السور “فالجراح التي تسببها كلماتنا اللاذعة تماما مثل الثقوب التي تحدثها المسامير في السور”. وإذا كان النصارى يعتقدون بأن السيد المسيح قد دقّت أطرافه بالمسامير على صليبه ـ ويجزم النص الإسلامي بأنه شبّه لهم ـ فإن بعض الأشخاص من ذوي القدرات الخارقة، يتبارون في النوم فوق سرير من المسامير. وترجع بعض المصادر هذا السلوك إلى حكمة هندية قديمة، عمادها إيلام الجسد لتطهير الروح. هذا الألم، لا يعرف شدةّ بأسه إلا من جرّبه، أو جرّب شبيها له في قول شاعر: ندمي كوخز المسامير. ومثله زميله الذي تفجّع وندب حظه في قصيدة عنوانها: “حافي في دولة المسامير”. ولكن ما همّ المسامير في هذه الملحمة البشرية، التي تبدأ بالسياسة وانهياراتها وتنتهي بالضمائر وتداعياتها، طالما أنها تعلن حكمتها التاريخية على الملأ: “نحن المسامير لا يزيدنا الشاكوش إلا ثباتا”. والمشكلة في الشاكوش هي عندما يصبح في يد من يعتقد أن رؤوس الناس هي المسامير. لم تعد المسامير التي تدق النعوش ذات قيمة. أشد مضاضة منها، مسامير اللحم التي تنبت ـ عافاكم الله ـ في القدم. adelk58@hotmail.com