عندما أفكر في طبيعة “السيرة الذاتية” يخطر على ذهني عدد من الأوضاع التي هي أقرب إلى طبيعة السيرة الذاتية. الوضع الأول يشبه فيه كاتب السيرة الذاتية وضع المستلقي على أريكة التحليل النفسي، وأمامه الطبيب النفسي يطلب منه الاسترخاء التام، وإطلاق العنان لما في نفسه، كي تفضي بكل ما لديها، وما يثقلها بالهم، أو ما تعانيه أو عانته أو حتى مرت به، في حرية وتلقائية دون رقيب أو حسيب. ويمضي المريض النفسي في الحكي التلقائي، والطبيب النفسي يستمع إليه في صمت وصبر. وقد يقوم بتسجيل اعترافات المريض أو تدوين ملاحظات عن ما يسمع أو يرى، إلى أن ينتهي موعد جلسة التحليل النفسي، فيتوقف المريض عن الحكي إلى مرة أخرى، ما ظل لديه ما يقوله، وعلى الطبيب أن يكشف في ثنايا الحكي التلقائي، أو الاعتراف، ما يساعده على الانتقال من أعراض المرض النفسي إلى أسبابه الجوهرية في اللاشعور، تلك الأسباب التي يرفعها الحكي التلقائي من اللاشعور إلى الشعور، فيتم حل العقدة ويتماثل المريض للشفاء بفعل تداعيات الحكي الحر. وأما الوضع الثاني الذي يذكرني به فعل كتابة السيرة الذاتية فهو وضع التوقف أمام كاهن الاعتراف المختفي وراء ستار أو حائط خشبي في كابينة الاعتراف الموجودة في الكنائس المسيحية. والأصل في فكرة الاعتراف المسيحية أن يتخلص المسيحي من أدران الذنوب والآثام التي ارتكبها، وأثقل بها ضميره الديني الذي يظل يعذبه إلى أن يتطهر بالاعتراف. وفي هذا الفعل يحكي الآثم ما ارتكبه من إثم أو ذنب للكاهن الذي يستمع إلى الاعتراف حتى النهاية. ويأمر الآثم بالتكفير عن ذنبه الذي يعد بعدم العودة إليه بأداء بعض الطقوس التعبدية. وأغلب الظن أن فكرة الاسترخاء على أريكة التحليل النفسي هي الشكل المتطور من فكرة الاعتراف المسيحي في الغرب. وكاتب السيرة الذاتية هو من يتخذ وضع الاعتراف في أثناء كتابة السيرة الذاتية، لكن الفارق هو أنه يستبدل بالمحلل النفسي وأريكته، وبراهب الاعتراف وكنيسته، فكرة الجلوس مع نفسه، وحيدا متوحدا، ليفضي بكل ما في داخله بواسطة القلم على الصفحات البيضاء التي تحل محل كاهن الاعتراف وأريكة التحليل النفسي على السواء. ولذلك فالسير الذاتية الناجحة التي تدخل التاريخ الأدبي والثقافي من أوسع أبوابه هي السير التي تنطلق فيها أقلام كاتبيها أو كاتباتها، متحررين من كل القيود الاجتماعية والدينية والسياسية والأخلاقية، مطلقين العنان لما في داخلهم لكي يصاغ على الورق في صدق تام وحرية كاملة، دون خوف من ذكر أخطاء الماضي، أو الآثام التي ارتكبوها، مستبدلين بآذان كاهن الاعتراف والمحلل النفسي أعين القارئ الافتراضي الذي يكتبون له سيرهم الذاتية دون خوف منه أو خجل، ما ظلوا واثقين في تسامحه وتفهمه وتحرره، بدوره، من القيود الرقابية التي لابد أن يتحداها هذا القارئ الافتراضي، كي يمتلك شجاعة توازي شجاعة الكتابة، فيكون جديرا بصفة القارئ الحق.