أما أجمل الموشحات الصوفية فهي لأبي الحسن الششتري الأندلسي المولد الذي عاش في القرن السابع الهجري، وانتقل من الأندلس إلى المغرب والمشرق حاملا راية الإبداع والتصوف في الأسواق والمساجد حتى وافته المنية بقرية الطينة بجوار دمياط في مصر ليقول عبارته الشهيرة “رجعت الطينة إلى الطينة”. وسنختار من منظوماته الجميلة ما يشف عن روحه ومذهبه ويكشف عن مستوى شعريته، يقول مثلا: يا كثير الملام/ لا تلمنا ودعنا نحن أهل الغرام/ كل معنى معنا نحن قوم لنا/ في المعاني أسرار الهوى طبعنا/ والولوع والأذكار والطرب والغنا/ به تزول الأغيار ولم يزل المتصوفة على مدار العصور متفردين بمذاهبهم وطرائقهم، لا يعنيهم لوم الآخرين، فهم أهل الغرام بمعانيه السامية وأسراره الكامنة، لا يدارون ولعهم بالعشق الإلهي والذكر الصوفي، ولا يكفون عن استخدام الموسيقى والرقص والطرب والغناء وسائل للتعبير عن الوجد والهيام. لا تكثر كلام/ سكرنا ينفعنا عن طباع العوام/ العذر خلعنا رق معنى الهوى/ في النفوس والأشباح وظهر واحتوى/ في الصدور والأرواح يا خليّ الجوى/ لو ذقت من ذي الراح شعار الصوفية دائما كان خلع العذار وإعلان الخروج على أخلاقيات العوام التي تعنى بالظاهر وتمارس النفاق على حساب خراب الباطن. أما أهل الطريقة فهم في غنى عن الدفاع عن أنفسهم، فهم في شغل عن كل ذلك بما يستغرقون فيه من الذكر والوجد، حتى لكأنهم سكارى يفصلهم ذلك عن محيطهم ويجعلهم مختلفين عمن حولهم، فقد رق لهم معنى الهوى وظهرت عليهم آثاره، أما من سواهم ممن خلت صدورهم من هذا الجوى فهم محرومون منه ولو ذاقوا شيئا من طيباته. يا له من مدام/ من سكر به غنى شربوه الكرام/ ولهم فيه معنى خمرا صافي زلال/ ليس هُـ من أعناب شاهدوه الرجال/ بالقلوب والألباب حفهم ذو الجلال/ الكريم الوهاب بالهنا المستدام/ إذ عليه المبنى هم أناس كرام/ في محل أسنى ونلاحظ على هذا المقطع وضوح الخواص اللغوية التي تميزت بها اللهجة الأندلسية وبرزت بالتوازي مع بقية اللهجات العربية الأخرى، ومن أهمها تسكين أواخر الكلمات واختزال الضمائر في حرف واحد مثل الهاء المضمومة في “هو” واستخدام الصيغة التي يسميها النحاة صيغة “أكلوني البراغيث” في قوله “شربوه الكرام” وقصر الممدود في “الهنا” ثم تأمل هذه الكلمة التي نظنها محدثة في لغة الاقتصاد اليوم عندما نتحدث عن “التنمية المستدامة” وكيف وصف بها الشاعر العادة فى الجنة وهي المستدامة حقا، أما هذه الخمر التي لا نظير لها والتي تشاهد بالقلوب وليس بالأبصار فهي من خصوصيات هذا النعيم المستدام، وهي خمر الصوفية التي رطبت أرواحهم وأنعشت قلوبهم ورفعتهم إلى مكانة عالية لا يستطيع العوام تقديرها أو السمو إلى درجاتها الرفيعة.