أدارت حرباً أهلية على امتداد 600 صفحة، وأنهتها كما تنتهي هذه الحروب عادة: الكل فيها مهزومون أو ضحايا. في روايتها «الأولى للكبار»، فاجأت ج. ك. رولينج نقّاد الأدب البريطانيين. حكموا قبل أن يفحصوا، فأطلقوا ذلك السؤال الخبيث: هل فقدت مبدعة سلسلة «هاري بوتر» لمستها السحرية؟ وعندما تكشفت لهم معطيات وأبعاد الرواية الجديدة «منصب شاغر»، بدأوا يتراجعون ويراجعون، مفصحين عن تقدير نقدي عال، ما عدا استثناءات قليلة، عبر عنها ناقد «الجارديان» تيو تايت بقوله: إن الرواية «ليست تحفة»، لكنها «ليست سيئة أيضاً». هذا الحكم المائع يبدو أنه لم يتحرر من مناخات «هاري بوتر». لم يواكب تلك النقلة من مدرسة هوجرتس للسحر والشعوذة الأسطورية إلى منازل وشوارع بلدة باجفورد في إنجلترا المعاصرة. يعيش سكان هذه البلدة في رتابتهم الريفية. لا شيء يعكر الصفو العام، أو هذا ما يبدو، لكن حدثاً غير متوقع يرج البلدة، ويكسر قشرة البيض التي كانت تغلف تدافعاتها، بموت عضو المجلس البلدي باري فيربراذر. رجل عصامي، محبوب، خدوم، ديناميكي، وناشط اجتماعي معروف. تجعل رولينج من هذا الحدث «دينامو» يبث الطاقة في ما سيليه، فالمنصب الذي شغر بوفاة باري ينبغي ملؤه بالانتخاب. هنا تتكشف الأنياب الحادة. ضغائن ودسائس. نميمة وثرثرة. مؤامرات وتحالفات. وكل ذلك يجري تحت مظلة صراعات كانت متوارية خلف ابتسامات ولياقات على الطريقة الإنجليزية الباردة. بإتقان سردي، حسّاس، لكنه شبه ميكانيكي، تقود المؤلفة صراعات جامحة، ليس المنصب الشاغر إلا عنواناً لها: صراعات بين القرية والمدينة. بين الأثرياء والفقراء. بين الجيل القديم والجيل الجديد. بين الأبناء والآباء. بين الرجال والنساء. والأهم في تلك الصراعات، أنها ليست وليدة اللحظة. تعود إلى آخر ما يمكن أن يذكره الأهالي، أو يتوارثوه من حكايات بلدتهم، وعراقة عائلاتها، وعلاقاتها مع جيرانها خصوصاً مدينة يارفيل القريبة، ثم إن الأخطر، هو ما توحي به المؤلفة، بأن الصراعات ليست «بلدية»، بقدر ما هي «نموذجية»، إنها صورة لمجتمع أوسع، في تحولاته المربكة، وأزماته العامودية والأفقية. أزمة المجتمع المنكفئ على ذاته، المتصاغر من أفق الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، إلى حدود الجزيرة التي تتهددها موجة عاتية. لا تصدر ك. ج. رولينج أحكاماً معيارية مباشرة على الأزمة التي تعاينها في روايتها، لكنها تمظهرها بذكاء شديد في إطار قيمي صريح، ذي بعدين. أولهما، مشكلة الفقر، التي تعتبرها المجتمعات النامية قنبلة موقوتة. وهي كانت كذلك في بلدة باجفورد والجوار. تناقض صارخ بين طبقة المعدمين والطبقة الوسطى فما فوق، فبدت الرواية «مثل رأس إبرة تكشف أمراض المجتمع الطبقي» بحسب تعبير «الدايلي إكسبرس». وثانيهما، مشكة انهدام أو انعدام الوازع الأخلاقي، فتصعد إلى السطح، سلوكيات الفساد، ونزعات العنصرية، والعدوانية ضد الآخرين والممتلكات العامة، وتجارة المخدرات.. وكثير، كثير من الجنس، الذي يبدو في بعض مظاهره حيوانياً. تبقى ملاحظتان: أولاهما: أن رولينج لا تقدم سرداً مجانياً. توظف كل حركة أياً كان حجمها في سياق أعم. كم كان مدهشاً أن الكومبيوتر المسروق الذي رماه صاحبه في النهر سوف يؤذي لاحقا الفتاة التي حاولت إنقاذ الطفل الغريق. وثانيهما: أن مزاج «هاري بوتر» لم يبتعد كثيراً عن الرواية، فالثلاثة الذين اخترقوا الموقع الإلكتروني للمجلس البلدي وجعلوا الصراعات تدور على المكشوف كانوا من اليافعين.. حرب أهلية دارت حول «منصب شاغر» في بلدة صغيرة انتهت إلى شغور أعمق في مجتمع أكبر. adelk58@hotmail.com