نادى الغلام: يا قتيبة.. نداء حانق أعاد بناء الأحداث، وكتب حكاية مغايرة لتاريخ كان يمكن أن يكتب على نحو آخر. أما الغلام، فهو صبي من عامة “قلعة الأرض”، وأما قتيبة فهو القائد قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي فتح سمرقند من أعمال آسيا الوسطى، في سنة 78 للهجرة. ومختصر الحكاية إن الغلام اشتكى قتيبة للقاضي، لأنه احتل بلده من دون أن يدعو أهلها للإسلام أو يفرض عليهم الجزية، على غير عادة الفاتحين المسلمين. أقر قتيبة بفعلته محتجا بأن الحرب خدعة. أمره القاضي بالانسحاب، ففعل، وبعدها دعا أهل سمرقند إلى الدين الجديد، فدانت ومعها بلاد ما بعد النهرين (جيحون وسيحون) بالإسلام. شغلت سمرقند، مخيلات الرحالة من الشرق والغرب. فهي تتوسط طريق الحرير الشهير. وهي (ومعها مدن أخرى) قاعدة جحافل انطلقت لكي تدك عروشا وتهزم جيوشا. تلك العدوانية التوسعية العسكرية، ارتكنت إلى حضارة بالغة الثراء، رعاها تيمورلنك وأخلافه، فنهض فيها العمران الباهر وعمت الصناعات والحرف البديعة، وازدهر الفكر وظهر أعلامه. لذلك وصفها ابن بطوطة بقوله “إنها من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالا”. وقال عنها إدغار آلن بو إنها “ملكة الدنيا، مزهوة على جميع المدن، وفي يديها مصائرهن”. وفي غفلة من التاريخ، دخلت سمرقند في غياهب الستار الحديدي السوفييتي، فعمها الظلام وغابت عن الذاكرة العربية على وجه الخصوص. ظلت درسا في التاريخ والجغرافيا فحسب. لم تسترسل أشواق المبدعين، من شعراء وروائيين، إلى تلك المدن الساحرة أو المسحورة. اكتفت بالحيز الجغرافي المتاح، إلى أن قام أمين معلوف بحملة الفتح الثاني لسمرقند. في روايته التي حملت اسم المدينة عنوانا لها، يتجاوز بطل معلوف حدود الزمان والمكان، فهو عاش في سمرقند وسينابور وسكن في مكتبة قلعة آلموت، وعاصر الغزو المغولي، وظهر بعد ألف عام. رحلة مشوقة يجمع فيها أمين معلوف عمر الخيام وحسن الصباح (مؤسس فرقة الحشاشين)، متقصيا أثرهما، وغائصا في عوالمهما الفكرية والسياسية، بحثا عن وثيقة سيلتقطها في مطلع القرن العشرين أميركي يدعى بنجامين عمر لوساج (ربما ينتسب إلى عمر الخيام)، لكنها تضيع في كارثة الباخرة تايتانيك. هذه الرحلة المدهشة في التاريخ، ستجد ترجمة عصرية لها مع رواية المصري محمد المنسي قنديل “قمر على سمرقند”.فهي الأخرى رحلة يقوم بها علي المصري إلى سمرقند، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، بحثا عن سر وفاة أبيه المسؤول الأمني الرفيع في عهد السادات، والذي يعتقد أنه بحوزة صديقه الجنرال المتقاعد رشيدوف المقيم في سمرقند. منذ اللحظة الأولى يلتقي علي بنور الله الذي سيقله بسيارته المتهالكة إلى مقصده. على الطريق المزدحمة بالمخاطر والمغامرات، سوف تتكشف معالم من حال المدينة التي عاشت في الأسر السوفييتي لعقود وخرجت لكي تبحث عن هوية ضائعة. تختلط صور الرذيلة والفضيلة، في حكايا نور الله، المتقن للغة العربية، والعارف بالدين، الورع والفاسق، المتعاون مع سلطة الاحتلال والناقم عليها، الغارف من متع الحياة والمقبل على الآخرة بنهم الزاهدين بالدنيا. عالم من الأساطير والغموض المتدثرة بواقع فج، هو “الديكور” الذي تدور فيه أحداث “قمر على سمرقند”. وتذكر بشذرات عرض لها يوسف زيدان عندما قاد بطل روايته “محال” في رحلة فجائعية مرت في تلك البلاد. ويبقى إن الأهم من مصائر الأبطال ومسارات السرد في هذه الروايات، هو أنها رسمت خريطة طريق تقود إلى ما وراء النهرين... adelk58@hotmail.com