في شعرية القصيدة الحديثة تتصل الانزياحات التي تتضمنها العناوين ببرنامج النص، وتصبح جزءا أساسيا من المتن، فيخامرنا التشكيك في كون تلك العناوين مجرد عتبات خارجية أو نصوص صغرى محايثة، إلا إذا اعتبرنا ذلك الوصف تعبيرا عن صفة جمالية تتولى القراءة مهمة كشفها. في ديوان الشاعر عبود الجابري “متحف النوم” تستوقفنا الإضافة اللغوية المحددة لعلاقة المتحف كمكان ذي دلالة ماضوية، بالنوم كحالة من الغياب عن الواقع ومفردات اليوم العادية. لكنها عند التحليل تقودنا إلى المستوى البلاغي كخطوة تالية في الإجراء النقدي والبحث الجمالي الذي تتعهد به القراءة. ويعطينا الديوان مثالا على أهمية العنوان في القراءة المتعقبة للدلالات الموحدة والمنتجة لموقف الشاعر من العالم ورؤيته التي تخلق صوره وإيقاعاته وتركيباته. وقد لاحظت اهتمام الشاعر بالانزياح في العنوان في ديوانيه السابقين وهما “فهرس الأخطاء” و”يتوكأ على عماه”، وإذا كان الانزياح في الفهرس دلاليا يحتاج إلى تعقب العلاقة المعنوية، فإن الثاني يمثل صورة من صور استثمار الانزياح لكسر توقع القارئ وخلق مفارقة حادة تتمثل في استبدال العمى بالعصا أي جعل المنغلق دلاليا علامة على استبعاد المتوقع والمعتاد من فعل الاتكاء. ماذا سيضم متحف النوم لو تهيأ لنا تشخيص العلاقة المجردة وجرى تعيين ذلك المجرد المكاني بإسناد النوم له كمتعلق بنائي ودلالي؟ قصائد الديوان تجيب عن ذلك بمقترحات نصية متنوعة لا يصعب تبين وحدتها الموضوعية. فثمة إيهام وارتفاع بالصورة إلى فضاء مجازي يعوض غالبا عن إيقاع نفتقده في كثير من النصوص الحديثة، فإذا ما اخترنا النوم والصمت والعمى كثيمات متكررة بوضوح في الديوان سنجد ما يوحدها دلاليا. فالنوم فقدان مجازي لحاسة البصر يعطل القيام بفعل الرؤية ويقوم بتغييب وظائف الجسد، ويمثل الصمت الانقطاع عن الإفصاح ووأد للكلام، بينما يغدو العمى مقترحا للرؤية في ظلام العالم وعونا للعيش فيه. يصف الشاعر حالماً يمارس النوم فعلا للرفض، ويحلم في حلمه لمضاعفة الهروب صوب العمى الدلالي في عماء العالم: (في سبيله/ للخلاص من اللغة الصدئة/ يكتب على دفتر النوم العميق/ ويحلم بالحروف/ تسيل من الحلم../ وتغدو قصائده كتبا من النوم المعبأ بالأحلام) تكون الأحلام بديلا عن النوم، والإفصاح بالقصيدة بديلا عن الصمت، وفي مكان آخر سيكون للبصر وظيفة تعويضية. فالمناجل كفيفة والوطن أعمى، لكن الشاعر يبصر وراء الأشياء صورا ينقلها ببلاغة وشاعرية، وفي النوم يرى موتا مؤقتا يقاومه بالحلم. وعلى جدران متحف النوم تتسلسل نكبات وجراح وخسارات، ولكن بجانب أمل ضمني خجول يبحث عن النجوم في قاع الظلام الذي تغرق فيه: (كنت كصائغ أعمى/ أتلمس معدن الذهب تحت قميصك). وفي استعادة لدلالة الحلم نعثر على توصيف ينم عن رهافة شعر الجابري ودقة اختياره لما يعيد تمثيل الحالة الشعرية: (الحلم/ مساحةُ ما نظفرُ به من أوطاننا/ فاستريحي فيه قليلا/ ريثما ينام الموت/ وأعد لك وطنا كاملا).