على غير ما يُعرف من معنى للتائه بأنه “صاحب الأهداف التي مآلها الضياع”، أرى في التوهان مقدمة حتمية للحكمة؛ فعندما يكون “التيه” قراراً يسبقه وعي وشغف ورغبة تمتلك أدوات البحث لمعرفة الحقيقة، لا يمكن أن يكون الشتات نتيجة حتمية لصاحب قرار كهذا. هذا هو قرار التيه الذي اتخذه الأديبان “محفوظ” و”جبران” فحلقا بنا في رياض الحكمة عبر أعمالهما التي ما كانت إلا أدوات للبحث وامتلاك المعرفة للوصول إلى اليقين. ومن المفارقة الغريبة، أن يكون كتاب “التائه” للأديب اللبناني جبران خليل جبران، وشخصية “عبد ربه التائه” في كتاب “أصداء السيرة الذاتية” للأديب المصري “نجيب محفوظ” من أواخر أعمال كلا الأديبين، يعرضان فيهما بطرق مختلفة خلاصة تجربتهما الأدبية التي تألقت فيها الحكمة بين الفلسفة والصوفية.
اعتاد مجلسنا الأدبي”بحر الثقافة” استضافة الكُتاب والأدباء ممن نناقش أعمالهم، وذلك في لفتة كريمة من صاحبة المجلس الشيخة روضة بنت محمد بن خالد آل نهيان، وإصرار منها على تطوير الحس الأدبي لأعضاء المجلس، والبحث عن ما هو أكثر من العمل الأدبي المكتوب، بالاستزادة من عمق الأديب صانع العمل؛ غير أن ما شهدناه في مجلس “قلبي” في جلساته الأخيرة، هو لفتات مختلفة وتقليد جديد يستحق الإشارة إليه؛ فقد أصبح مجلسنا يستضيف أدباء وقامات عربية مضوا ورحلوا عنا بأجسادهم فقط. فلمرتين على التوالي، يستحضر أعضاء مجلسنا روح أديب عربي رائد، قدم في أعماله فرادة أدبية تميز بها في عصره، وظل بإبداعه يسحر الأجيال التالية له؛ فحضر المرة الأولى الأديب المصري “نجيب محفوظ” عندما ناقش المجلس أعماله في الحادي عشر من ديسمبر الماضي في اليوم الذي يوافق المئوية على ولادته، والمرة الثانية عند مناقشة أعمال أديب الإنسانية اللبناني “جبران خليل جبران” في الذكرى الـ129 لميلاده.
بالتأكيد كان لاختيار تواريخ مناقشة أعمال كعبث الأقدار وحكاية بلا بداية ولا نهاية لنجيب”محفوظ”، و التائه وطرائف وبدائع لــ”جبران”، في ذكرى مولدهما أبعد عمقاً وحضوراً وأكثر غزارة على عكس لو كانت تلك الأعمال نوقشت في مواقيت مختلفة، خاصة وأننا نناقش عملاً وحياة، وأثراً بعد موت، لأدباء عشقوا الحياة وآمنوا بالموت. أدباء أكدوا لنا أن ما يراه البعض من تناقض بين الحياة والموت، وهم؛ وأن اليقين ما جمعه الأديبان في تيههما بين عشق الدنيا وتفاصيلها وبين الحكمة والإيمان بالموت. فكما يقول “محفوظ” على لسان “عبد ربه التائه”: حب الدنيا آية من آيات الشكر لله، ودليل ولع بكل جميل، وعلامة من علامات الصبر. وكما يقول جبران: إذا فرغت من حل جميع أسرار الحياة.. تتوق إلى الموت، لأنه سر من أسرار الحياة”. فطوبى لصاحبة هذا البحر الذي أغدق علينا بعلمه.. وجمع لنا من “تيه”


Alsaad.Almenhaly@alittihad.ae