عندما زار الكاتب المصري الساخر محمود السعدني - شقيق الممثل صلاح السعدني - بريطانيا، وتنقل بين مدنها وريفها، كتب مقالاً عن الريف الإنجليزي، قال فيه إن الريف في أوروبا أجمل وأفضل وأكثر رفاهية وتطوراً من المدينة، وأن الأمر بخلاف ما هو عندنا في العالم العربي، حيث تسعى كل الحكومات إلى جعل المدينة نقطة الاستقطاب ومركز الخدمات، بينما يظل الريف العربي مثالاً للتخلف والفقر والأمية وانتشار الأمراض، فلا يسكن الريف إلا الفقراء المعدمون ولا يتخلص الريفي من فقره وجهله وكوارثه الحضارية إلا إذا يمم شطر المدينة، حيث الجامعات والمشافي والشوارع وال....!
رحمك الله يا أستاذنا، فكلما يممت صوب الأرياف الأوروبية تذكرت كلامك هذا وتساءلت عن سر الحياة بالمقلوب في بلادنا العربية؟ فقد زرت عواصم كبرى في أوروبا تعج بكل بهاء الحضارة وجمال المدنية، الزحام، والشواهد الحضارية الكبرى، الأسواق، مراكز الفن والخدمات، دور العلم والجامعات وغير ذلك، لكن الراحة لا تجدها إلا في الريف الذي وإن خلا من علامات المدينة الضخمة إلا أنك لا تفتقد فيه ملامح الراحة، وأقصى درجات الخدمة المطلوبة ليلاً ونهاراً. أتذكر أنني جلست في ساحة قرية من قرى الريف النمساوي عام 1999، وسمعت عجوزاً تتحدث إلى رفيقتها باستياء وغضب، وحين سألت عن السبب، علمت بأنهم في القرية يعيشون حدثاً مزعجاً أثار استياءهم جميعاً، فقد صحت القرية على صوت سيارة شرطة غير معهودة، والسبب بلاغ تقدم به أحد السكان عن سرقة دراجته، قال لي (جوزيف) صاحب النزل الذي أقيم فيه بأنهم في القرية لم يسمعوا عن سرقة أي شيء منذ 25 عاماً وربما أكثر! هذه واحدة من الحكايات التي لا أنساها، لأنني كنت في الساحة القديمة في بروكسل ذات يوم من شهر أغسطس، فوضعت هاتفي جانباً، واستغرقت في تأمل رصف سجادة الزهور الشهيرة في تلك الساحة، وعندما وضعت يدي لأخذ الهاتف كان قد اختفى في غمضة عين. بينما كانت صديقتي تنهي إجراءات تسلمها غرفتها في أحد فنادق الدرجة الأولى في أمسترام، وعلى حاجز الاستقبال أعطت الموظفة جوازها، وحين التفتت لحقيبتها لتأخذ بطاقة الاعتماد كانت كل حاجياتها قد اختفت!
وحين لم احتمل حرارة وقذارة باريس صيف عام 2005، ولا زحام السياح والوقوف لأكثر من ساعة بانتظار الحصول على طاولة في مقهى صغير، لم يرحمني من ذلك الشقاء سوى ريف النمسا البارد الهادئ، أنا السائحة العربية التي تأبطت أمتعتها فارة من جحيم حر الصحراء باحثة عن نسيم بارد وجمال باذخ، ندفع لأجله الكثير، لا لنحصد السرقات والسخرية والمضايقة، ولكن لنحظى بشيء نستحقه من المتع الحلال المتاحة التي لا تتوافر كما يجب إلا حيث قال أستاذنا محمود السعدني رحمه الله تعالى: الريف!!
بينما ارتبط ريفنا العربي بالمرض - فأشهر مطربينا عبدالحليم حافظ مثلاً - ظل طوال عمره يعاني التهاب البلهارسيا التي اغتالت شبابه وموهبته، ولو لم تكن القاهرة العظيمة بكل عظمائها ما تفجرت عبقرية أم كلثوم، وطه حسين، وفاروق الباز و.. أعلام لا حصر لهم، لو أنهم بقوا في الريف لما سمعنا عن سلسلة العبقريات والمواهب هذه، وغيرها في بلادنا العربية، الريف في النمسا وألمانيا وبريطانيا ملجأ لكبار الأثرياء والتجار؛ ولذا تحتاج الحكومات العربية الجديدة التي ظهرت بعد هذه الثورات العربية أن تغير مفاهيم إدارتها وأنماط وخطط التنمية فيها، وأن تستثمر في الريف، بعد أن اتضح من كل التاريخ أن الريف هو الرافد الحقيقي للمدينة بكل أنواع المواهب.


ayya-222@hotmail.com