آهٍ.. كم كبرنا.. كم غامت الذاكرة وانمحت الذكريات.. كم كفنت مرارة السنين والأحداث براءة الغفلة وعسل الطفولة.. كم شخنا وشاخت الأحلام ولم تعد أيامنا سوى اتكاء على الحنين، وبقيت أنت يا رمضان طفلا دائما يولد كل عام في أعمارنا القليلة.. ما أن تلوح بالمجيء حتى نسرع إلى المتاجر، صغارا بصحبة الأهل، وكبارا نصطحب صغارنا الذين يشتركون بانفعال وحماس وبهجة في اختيار أصناف الحلوى والمؤونة التي تليق برمضان الكريم. في العسر وفي اليسر لا بد من شراء المؤن على غير عادة الناس خلال الأشهر الأخرى، فرمضان يأتي بطقوسه وخيره ورزقه.. أكثر البيوت عوزا تمتلئ موائدها بالطعام الذي يفيض به كرم رمضان وسخاء الجيران المقتدرين الذين يأملون الرحمة والغفران.. فمن سجايا رمضان انه شهر تواصل وتراحم بين القريب والبعيد! ??? كما أن ذلك حدث بالأمس. كما لو أنك تسافر في “آلة الزمن” للروائي الإنجليزي الشهير “هربرت جورج ويلز” لتعود بك إلى الوراء، إلى الطفولة الغضة، ما قبل النضج والتعقل، ما قبل الإدراك ويقظة الوعي. حيث كل شيء طازج وبكر. حين كانت قرية الرفاع الشرقي سخية في بساطتها وطيب ناسها، لم تكتظ هضبتها بالوحوش الحجرية بعد، ولم تحتشد المتاجر على ضفاف شوارعها مزدحمة بكل سلع القارات! كانت مصابيح الكهرباء القليلة تنشر نورها الشحيح على الطرقات العامة وحدها بينما تغرق البيوت في ألفة المساء التي لا تبددها مصابيح “الكاز” في اغلب البيوت الشعبية الطراز التي بنيت من طين الرفاع وأحجار هضبتها، حيث تصطف الحجرات في مستطيل بثلاثة أضلاع ويبقى الضلع الرابع في حراسة الباب الكبير لمدخل البيت. ويمر الرواق المسقوف (الليوان) أمام الغرف كلها، ويتبوأ “الحوش” مركز الحركة والراحة والسمر في أماسي الصيف الخليجي. كان جدي وحده يكفهر قليلا لأن رمضان سيحرمه من أرجيلة الصباح وقهوته التي يتناولها في ظل الحوش قبل سطوع الشمس، لكنه يمسد لحيته القصيرة الرشيقة مبتسما ويقول: إن أجرنا عند الله أكبر من متعة الأرجيلة والقهوة ويمد سجادته ليؤدي سنة الضحى، ثم يذهب إلى دكانه ليبدع أجمل المصوغات من ذهب ذلك الزمان الذي لم يعرف الغش وبريقة الخديعة بعد. وعند الغروب تكون الأرجيلة قد اتخذت مكانها في زاوية قريبة من سفرة الإفطار في ظلال الرواق. لم يكن يصلي قبل الإفطار حين يرى نساء البيت يصلين المغرب بينما أصناف الطعام تنتظر ليردد: الصلاة قبل الإفطار مخالفة لسنة الرسول عليه السلام، فقد قال “القريض قبل الفريض” وكانت خالتي تشكك في نسبة هذا القول إلى الرسول وصحته، لكنها كانت تشيح بيدها باسمة وتقول لجدي: “سير أنت كل.. الخير وايد”. فيظل الجد ينتظر حتى ينتهي الجميع من صلاتهم ويلتفون حول طعام الإفطار. كان جدي يأكل أقل من الجميع وأخف الأطعمة على الهضم ويؤجل الهريس واللقيمات والمحلبية إلى ما بعد صلاة التراويح، وكان له في ذلك حكمة، إذ يقول: قال عليه السلام: “إذا ملئت المعدة فسد العقل”. hamdahkhamis@yahoo.com