إن كل الذي يحدث لنا وحولنا وبنا يعرض أمام أعيننا كل لحظة، ولكن بما نسبته 5%، ربما عبر الفضائيات والصحف والنقاشات السياسية في كل مكان، أما الـ 95% الأهم في المشهد، فيقبض عليها أولئك الذين يثرثرون ليل نهار عن صناعة المستقبل وتغيير أقدار الناس وتأمين الغد المشرق لهم، فكيف يرى هؤلاء الصناع العظام هذا المستقبل يا ترى؟ لدينا نحن بسطاء الناس كما كثيرون غيرنا من مثلنا شكوك كثيرة حول علاقة هؤلاء الثرثارين بهذه الصناعة الخطيرة، فلو قالوا سنصنع لكم قنابل عنقودية لنقتلكم بها فإننا سنصدقهم من فورنا، لكنهم إذ تحدثوا عن صناعة المستقبل الأفضل، فإنهم يسقطون في الفراغ والشك والتخبط!
في روايته (الضحك والنسيان)، وهو عنوان لم يأت اعتباطاً، بل اختاره الروائي التشيكي ميلان كونديرا ليقول فكرته المؤرقة بأقل تكاليف المواجهة مع نظام بلاده القمعي سنوات الستينيات، يقول كونديرا في فصل من الرواية: «... وكما تفعل كل الأحزاب السياسية، وكما تفعل كل الشعوب، وإجمالاً كما يفعل الإنسان، جميعهم يعلنون الرغبة في صنع غد أفضل، لكن الأمر غير صحيح ، لأن المستقبل ليس سوى فراغ مهمل لا يهم أحداً، مقابل الماضي المفعم بالحياة، ووجهه المزعج والبغيض إلى حد أننا نرغب في تدميره أو إعادة تلوينه».
إن الناس كل الناس الذين يقبضون على قدرات التحكم في حياة الآخرين، يطمحون إلى التحكم في المستقبل، ليس لأنهم مهتمون بحياة الناس أو غدهم المشرق، ولكن كما يعتقد كونديرا بقصد كتابة سيرة مغايرة وتاريخ مختلف لهم أو لجماعاتهم أو لفكرتهم، ولكن ليس للناس البسطاء مكان في كل ذلك، لقد ذكرتني تلك السيدة المصرية وهي تحدثني عبر الهاتف من القاهرة، بفكرة كونديرا حين روت لي قصصاً مختصرة عن اعتقالات عديدة طالت أصدقاءها الصحفيين بتهمة التشهير أو الإساءة للرئيس، قالت باختصار إن ما ارتكبه النظام السابق في ثلاثين عاماً، يرتكب أمامنا اليوم في أربعة أشهر!
ميلان كونديرا يقول إن الجيش الروسي الذي اقتحم براغ في أغسطس من عام 1968 ليزيح الإصلاحي الكسندر دوبتشيك ويعيد الشيوعيين للسلطة، كان يتحدث عن إصلاحات وربيع ومستقبل أفضل وحريات وغير ذلك، بينما الحقيقة أن الروس كانوا يكتبون تاريخ التشيك على طريقتهم الخاصة وكما يريدون هم، ولذلك قبضوا على التاريخ ليعيدوا كتابته.
اليوم كل الذين يتحدثون عن المستقبل، يذكرونني بربيع براغ الذي استعار البعض اسمه ليطلقه على كثير مما حدث في بلادنا العربية، ربما بدا الأمر ربيعاً في بداياته، لكننا بالتأكيد ضللنا الطريق لكثرة الضوضاء التي ملأت الفضاء حول صناعة الغد المشرق والمستقبل الذي ستظلله الحريات التي لن نتمتع بها إلا بكتابة تاريخ مختلف، يفصله البعض على طريقته!



ayya-222@hotmail.com