يذهب الزهاّد بأقدامهم إلى حفلة الجوع. يتقربون منه، ويختارون المشي في دربه الشاق والمضني، وهم يدركون أن الشبع هو ما يعمي البصيرة، وأن الغرق في التخمة معناه السقوط في حفرة مظلمة لا قرار لها. المشي على حبل العطش الخفيف والجوع الخفيف هو ما يمنح التوازن للعابرين في نهر الحياة المتدفق بمغرياته الكثيرة. والبشر إنما تتوه بوصلة تركيزهم عندما تنجذب عيونهم للأشياء اللامعة فيظنونها ذهباً، ويظل أكثرهم يلاحقونها ملاحقة السراب بلا نهاية، وإن عثروا عليها في نهاية الطريق، فإن بريقها الكاذب يكون قد خفت. وجوفها الفارغ قد تكشّف. يجوع الحكيم إلى المعرفة، يذهب إلى الحفر في الرمل بحثاً عن البذرة الأولى، وحين يجدها يكون قد وصل إلى معرفة سر الأشجار كلها، ولا يعود يهاب الريح إن اقتلعت الجذوع من تربتها الأولى، ورمتها في الأنهار البعيدة، ذلك لأن الجذور تموت قروناً إن طال الجفاف، وتظل مطمورة في التراب دهراً، لكنها تعود لتحيى من جديد كلما هطل الرذاذ، وترطبت شفاه الرمل بقبلة المطر. والحكيم لا يصل إلى هذه المعرفة إلا حين يجرّب الجوع بأنواعه الألف، يصوم عن اللقمة الزائدة، ويمسك لسانه عن الكلمة الحاقدة، ويمنع عيونه من النظرة الجاحدة، ويطهر قلبه من ضغائن الشر، حتى لو كان هذا الشر بحجم رملة. وبالتدريج يتحول جوع الحكيم إلى شبع بالمعاني الواضحة التي لا يراها المتخمون بالنميمة، والمشبعون بالحسد، واللاهثون وراء ما يفنى. ولاحقاً، حين يختلي في وحدته وكهفه، سوف يقول الحكيم مديحاً عالياً في (القناعة) وغناءً صادحاً في (الرضا)، ولحناً شجياً في (التعفف). ولا يهم إن لم يجد أحداً يطرب له. أن تجوع عن قصد فيما الطعام أمامك، يختلف عن جوع الحرمان والقسر. هناك من يكون عطشان، ويريد أن يشرب النهر كله، وهذا النوع من البشر لا يرتوي حتى لو دلقوا مياه الأرض كلها في جوفه، وهناك من يقسم القطرة إلى نصفين ليروي الوردة، مدركاً أن جمالها سوف يغذي عيون المحتفلين بروعة الحياة. وهناك من يكسر الخبزة اليابسة ليطعم منها الجائع والغريب فيكون شبعه أكبر من شبع المتقافزين فوق تلال الولائم الدسمة. يقف الشاعر عند منحدر الحياة مراقباً رياح النهم حين تهبّ جبّارة من داخل النفس الضعيفة، وتدفع الملهوف إلى السقوط في مستنقع الطمع. لكنه على عكس الحكيم، لا يرغب في تفسير ما يراه بقدر ما يحاول وصفه ثم محوه ثم رسم ما لا يرى في مشهد الدنيا وناسها الحائرين فيها. تجوع الخطوة فقط، لطريق الحرية يجوع القلب فقط، للحب وتجوع الروح لرؤية النور ينبع من أعماقنا. akhozam@yahoo.com