لا أعرف ما الذي سيكتبه يانج جي شينج عن بلاده، ولكني أعرف ما الذي كتبته يونغ تشانج في كتابها. كلاهما ينتميان إلى صين ماو تسي تونغ، في الفترة التي صنعت فيها إرادة رجل واحد مصائر عشرات الملايين من الرجال والنساء والأطفال. تشينج، صحفي جال في أرجاء الصين الواسعة، إبان الحملة الاقتصادية الفاشلة المسماة “الوثبة الكبرى للأمام” (1958 ـ 1962)، كان شاهداً على موت الملايين بسبب المجاعة، ولذلك سيسمي كتابه “شاهد قبر”. أما تشانغ، فقد أبكرت في تقديم شهادة محزنة عن تصدعات وطنها من خلال حياة ثلاث نساء، جدتها وأمها وهي نفسها، في دراما امتدت من عام 1909 إلى عام 1978. في كتاب “بجعات برية” الصادر عام 1991، ترسم المؤلفة صورة داخلية للآيديولوجيا حينما تصبح آلة نهش فتاكة، للدولة والمجتمع وللإنسان. تتحول الآيديولوجيا إلى نوع من الأفيون، الذي نشأت بالأساس للقضاء عليه، بالمعنيين الفلسفي والمادي. فالشيوعية التي اعتبرت الدين أفيون الشعوب، وصارعت مع الصينيين سلطة المخدرات، سرعان ما حقنت مئات الملايين بجرعات عالية الكثافة من تبجيل العقيدة والحزب والسجود الذليل للإله المتجسد في “التشيرمان” ماو. تغوص يونغ تشانغ في التاريخ الماثل لبلادها منذ آلاف السنين، تروي حكاية جدتها، التي عاشت تحت معايير الأنوثة الصارمة، لكي تصبح جارية أحد أسياد الحرب، وتنجب منه ابنتها (أم المؤلفة)، ثم تهرب لكي تبقى طيلة حياتها موصومة بعار الجارية. وترافق تشانغ حياة والدتها في صعودها وهبوطها. فهي شابة جميلة، مقدامة، تفيض بمشاعر الوطنية، حينما كان الصينيون يواجهون الاحتلال الياباني. وتجد نفسها مبهورة بأخلاقيات أتباع ماو الحمر. ومن بينهم سيكون زوجها الرجل المبدئي الذي يرفض أن يبيع روحه تحت وطأة عذاباته وعذابات أسرته اللامتناهية. مع انتصار الشيوعيين، تدخل الصين ملحمة مأساوية لم تكن منتظرة. تكشفت فردية الزعيم عن نزعات وحشية لإقصاء المنافسين وتطويع المريدين. وكانت أدواته سياسات دفع ثمن فشلها عشرات الملايين، منها تلك الوثبة الكبرى للأمام. فقد عزل ماو الإداريين الناجحين، وأطلق العنان لأفكاره الجهنمية في تحقيق التنمية. واحدة من تلك الأفكار كانت رفع معدلات إنتاج الفولاذ إلى مستويات خيالية. انغمس الملايين في إقامة أفران مرتجلة لتذويب المعدن. جاء الكل بكل ما يملك من أدوات معدنية بما فيها حلل الطبخ، وراحوا يسهرون على تغذية النار بجذوع الأشجار المقتطعة. ترك ملايين الفلاحين عملهم الأصلي وأصبحوا عمال أفران. دبت المجاعة، لكن جريدة “الشعب” في بكين كانت ترسم صورة وردية عن البلاد الزاهرة، والشعب الذي يرفل بالسعادة. بالطبع رافقت هذه الحملة خضات هائلة داخل الحزب الحاكم. علت رؤوس المطبلين وهوت رؤوس المستائين. وحين اضطر ماو للتراجع على مضض عن خطته، بدأت البلاد تستعيد عافيتها، لكنه سرعان ما سيطلق حملته الثانية الأشرس تحت عنوان “الثورة الثقافية”. كان الشعار الأبرز في تلك الثورة: “دمروا أولاً، والبناء سيتكفل بنفسه”. كان التدمير شاملاً. تعطلت كل قطاعات المجتمع، وانشغل نصف الصينيين بإخضاع النصف الآخر لظلامة الاتهامات العشوائية والأحكام القاسية. في ظل هذه الثورة التي سوف تستمر إلى ما قبل وفاة ماو بوقت قليل، كانت عائلة المؤلفة تواجه أقدارها السوداء بالعزل والإدانة والتشريد. في سياق هذه الدراما المتصاعدة، كانت المؤلفة تصيغ كفرها بأفيون الآيدويولجية.. ولم تستطع أن تتحرر إلا عندما حطمت ذلك الصنم القائم في ذهنها.. أما كيف حققت ذلك؟ فلنقرأ الكتاب... adelk58@hotmail.com