لا نستطيع أن نودع الوشاح اللعوب ابن بقي الطليطلي دون أن نشير إلى موشح بديع له، استخدم فيه تقنية التناصّ التي نحتفي بها في النقد الحديث بطريقة بارعة، ويقول في مطلعه: “أشكو وأنت تعلم حالي/ أليس ذاك عين المحال/ والضلال لم يكن إليك سبيل فالصبر جميل.. جميل والدهر قاطع ووصول زد في صدودك المتوالي/ لابد أن تجود الليالي/ بالوصال” فالمركز ـ أو القفل كما كان يسميه ابن سناء الملك ـ يتكون من ثلاثة أجزاء، يستهلها الشاعر بالضراعة إلى المحبوب والشكوى إليه منه، وهو يدرك أن ذلك محال ونوع من الضلال. ثم يظهر رغبته في الصبر الجميل على ما يفعل الجميل، فهو يدرك أن الدهر قاطع ووصول، ويغري حبيبه بمزيد من الهجر والصدود، لأنه على ثقة من حقه في الوصال وقدرته على نيله. ثم لا يلبث أن يستخدم بيتي الشاعر العباسي كشاجم الذي يقول فيهما: يقولون تب والكأس فى كف أغيد وصوت المثاني والمثالث عالي فقلت لهم لو كنت أضمرت توبة وأبصرت هذا كله.. لبدا لي فيعيد توزيع الأشطر وتنويع القوافي وتلوين المواقف، ليضفي على الكلمات نسق التوشيح بطريقة ماهرة قائلا: “قالوا.. ولم يقولوا صوابا أفنيت في المجون الشبابا فقلت: لو نويت متابا والكأس في يمين غزالي/ والصوت في المثالث عال/ لبدا لي” فيتصرف ابن بقى في الشعر، تقديما وتأخيرا، وحذفا وإيجازا، كما يتصرف الموسيقيون في الألحان بإعادة توزيعها لتكون أكثر رشاقة وأشد جاذبية، وأقرب منالا من تركيباتها الأولى في لون من التناص الممتع الذي يزيد بالاعتراف بأنه قد أفنى شبابه في المجون، ولو دعى إلى التوبة ثم رأى غزاله يمسك بالكأس وينصت لوقع الموسيقى لعدل عن رأيه واستمر في غيهّ. ويختم ابن بقي هذه الموشحة بقوله: “قم فاستمع لخود كعاب تشكو الذي اقتضى من عتاب تمزيق شعرها والثياب واحسرتي وما قد جرى لي/ لاعبته فمزق دالي/ ودلالي” وهو مشهد قصصي ينبئ عن امتداد الخيال في الموشحات بطريقة سردية تتجاوز ما نجده في المقطعات الشعرية من اقتضاب واختزال، فالموشحة المحكومة بطول محدد هو خمسة مقاطع وتسمى أبياتا، تتخللها ستة أقفال تسمى مركزا تتسع لتشمل سردية قصيدة توجه حركات الخطاب وتدير شيئا من الحوار خاصة قبيل ختامها في كلمة قل أو اسمع أو غن أو غيرها، وهو هنا يحكي مشهدا عجيبا لفتاة رائعة الحسن ناهدة الصدر أخذت تشكو لوعة حبها وهي تمزق شعرها وثيابها وتندب ما جرى لها وهي تلاعب حبيبها، بكناية بليغة تتجاوز معنى الدل والدلال لتشير إلى شيء أخطر من ذلك وأعز عند الفتاة الأندلسية.